أدلة القرآن الكريم على إثبات خالق العالم
يظهر من استقراء الكتاب المجيد إثباته لصانع العالم بأربعة طرق:
1- دليل العناية.
2- دليل الأخلاق.
3- دليل الاختراع.
4- دليل الفطرة.
وفيما يلي بيان هذه الطرق الأربعة:
دليل العناية:
يعتمد هذا الدليل والبرهان على ملاحظة العناية بالإنسان والاهتمام بخيره وما ينفعه، وأن جميع الموجودات خُلقت لأجله، ومبنى هذا الدليل أمران:
الأمر الأول: أن كل موجودات العالم موافقه لوجود الإنسان ومنسجمة معه، والأمر الثاني: أن هذه الموافقة لا يمكن إلا أن تكون من فعل فاعل قاصد مريد، فلا يمكن أن تحصل هذه الموافقة والانسجام الكامل بالصدفة.
أما الأصل الأول، فإن الليل والنهار والشمس والقمر والفصول الأربعة والكرة الأرضية كلها منسجمة مع وجود الإنسان وملائمة له، كما أن معظم الحيوانات والنباتات والجمادات وأغلب الجزئيات الأخرى كالمطر والأنهار و البحار والماء والهواء والنار، كلها مناسبة تماماً للإنسان وملائمة له. كذلك إذا تأملنا بدّقة في أعضاء جسم الإنسان والحيوان رأينا أنها جميعاً تتفق مع حياة الإنسان ووجوده، وهذا الأمر واضح كل الوضوح، وكلُّ من أراد أن يعرف الله أكثر وأن يقوى لديه أساس التوحيد ويصل إلى كماله، ما عليه إلا أن يفحص ويبحث في المنافع التي لا حصر لها لأعضاء جسم الإنسان.
ومن هذا الأصل يثبت الأصل الثاني وتتم البرهنة عليه: لأنه من المستحيل أن تجتمع كل هذه الموجودات لأجل منفعة وجود الإنسان دون أن يكون وراء ذلك إرادة فاعل، بل بمجرّد الصدفة. مثلاً إذا رأى شخصٌ صخرةً منحوتةً على شكل كرسيٍّ وموضوعةً لأجل الجلوس عليها، فإنه يحكم أن هذا قد تمَّ بإرادة فاعل، إذا لا يمكن أن يكون نحتها ووضعها على ذلك النحو قد تم بالصدفة المحضة، أما إذا رأى صخرةً عاديةً ليست منحوتةً ولا موضوعةً على نحوٍ يناسب الجلوس عليها، فيمكنه أن يقول إن تلك الهيئة حصلت دون قصد قاصد. كذلك إذا نظر الإنسان إلى العالم ورأى الشمس والقمر والنجوم وفهم كيف تنشأ عنها الفصول الأربعة والليل والنهار وكيف أنها تسبب نزول الأمطار وحركة الرياح وإذا تأمَّل في أطراف الأرض والحيوان والنبات وتأمَّل في الانسجام والتوافق بين الماء وبين الأسماك والحيوانات البحرية والنهرية، والانسجام والتوافق بين الهواء والطيور، فإنه يُقِرُّ ويعترف مباشرةً بوجود صانع للعالم ووجود ربٍّ حيٍّ مريدٍ، ويدرك عناية هذا الربّ بإيجاد هذا التوافق والانسجام والتناسب بين أجزاء عالم الموجودات والإنسان وأن ذلك يستحيل أن يكون وليد الصدفة المحضة بل لا يكون إلا بقصد قاصد وإرادة مريدٍ، فإذا اتضح هذا الدليل القرآني لإثبات خالق العالم، نذكر الآيات القرآنية الواردة في بيان هذا الدليل:
الآيات الواردة في القرآن حول دليل العناية:
1- قال تعالى: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِـلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة/22].
2- وقال سبحانه: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي البَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ المُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [البقرة/164].
3- وقال أيضاً: ﴿اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)﴾ [الرعد/2-4].
4- وقال تعالى: ﴿اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي البَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾ [إبراهيم/32 -34].
5- وقال عز من قائل: ﴿وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ﴾ [الحجر/19-22].
والآيات الدالة على دليل العناية - كالتي ذكرناها أعلاه - كثيرة في القرآن الكريم، وما ذكرناه هو نماذج عنها فقط.
دليل الاختراع لإثبات خالق العالم:
وهذا الدليل يستند أيضاً إلى أصلين تحكم بهما الفطرة:
الأصل الأول: أن جميع الموجودات قد اُختُرِعت، وهذا أمر معلوم في الحيوان والنبات، كما يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ...﴾ [الحج/73]. ولما كنا نرى في البداية الجمادات ثم بعد ذلك نلاحظ وجود الحياة فيها، ومن البديهي أن الجماد الفاقد للحياة لا يمكن أن يكون هو مبدأ الحياة، فنقطع إذن بأن الحركة والحياة والشعور لا بد أن يكون مبدؤها حيٌّ قادرٌ وهو الله خالق الكون.
الأصل الثاني: كل اختراع يحتاج إلى مخترع. ومن اجتماع هذين الأصلين يتبين أنه لا بد أن يكون لجميع الموجودات فاعل ومخترع، وكل من أراد أن يعرف الله، ويصل بمعرفته لِـلَّهِ إلى كمالها، فعليه أن يطلع على جواهر الأشياء وحقائق الموجودات كي يفهم الاختراع الحقيقي، فكل من لم يعرف حقيقة الشيء لن يعرف حقيقة الاختراع، ولقد أشار الله تعالى إلى هذا المعنى بقوله: ﴿أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ..﴾؟ [الأعراف/185].
ونذكر هنا بعض الآيات الكريمة الواردة في دليل الاختراع:
الآيات الواردة في القرآن حول دليل الاختراع:
1- يقول تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ؟﴾ [الأنبياء/30].
2- ويقول سبحانه: ﴿وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشـَرُونَ﴾ [المؤمنون/79].
3- ويقول:﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَـرٌ تَنْـتَشِـرُونَ﴾ [الروم/20].
4- ويقول: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ؟﴾ [يس/77].
5- ويقول: ﴿فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ. خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ﴾ [الطارق/5-6].
دليل الاختلاف لإثبات خالق العالم:
عندما ننظر إلى عالم الموجودات نلاحظ أن بعض الموجودات يصدر عنها فعل واحد، مثل النار التي عملها الإحراق، فالصورة النوعية للنار منشأ لفعل واحد كما أنها ليست ذات شعور ولا إرادة. وإذا رأينا موجوداً تصدر عنه أفعال متنوعة نرى أن هذا الموجود يمتلك درجة من الشعور، كالنبات الذي تصدر عنه أفعال مختلفة من جذب الطعام و تحليله وهضمه ودفع الفضلات والتغذية والنمو والتكاثر، ولاشك أن الموجود الذي تصدر عنه أفعال مختلفة أكمل وأشرف من الموجود الذي يصدر عنه عمل واحد. ثم إذا تأملنا وبحثنا بعد ذلك في عالم الحيوان رأينا أن هناك حركات مختلفة تصدر عن الحيوانات فنفهم عندئذٍ أن هذه الحيوانات صاحبة إرادة وشعور لأنها لو لم تكن كذلك لما صدرت عنها هذه الأعمال المختلفة.
ومعنى الكمال في موجود اشتماله على قوى مختلفة، وكلَّما زادت قوى موجود من الموجودات زاد كماله.
فمثلاً المدينة الفاضلة الكاملة هي التي تتمتع بشؤون مختلفة، وكذلك الشخص العالم بفنون كثيرة أكمل من الشخص الذي لا يجيد إلا فناً واحداً أو عدة فنون فقط.
من هذه المقدمة نستنتج أنه لو كان مبدأ عالم الطبيعة فاقداً للشعور لوجب أن لا يصدر عنه إلا نهج واحد وطريقة واحدة، لكننا إذا نظرنا إلى العالم لاحظنا أنه مليء بالاختلاف والتنوع والتغايُر، بل لا يكاد يوجد موجودان شبيهان ببعضهما، فمن هذا التنوع والاختلاف بين الموجودات نكتشف أنه لابد أن يكون مبدأ العالم موجوداً ذا شعور واختيار وإرادة، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، لأن للإرادة والعلم والحكمة تدخُّل واضح وكامل في هذا النظام، فهذا التنوع يقودنا إلى عالم الغيب وإلى إدراك أنه خلف ستار الغيب هذا يوجد الله المريد المختار.
وخلاصة الكلام أن هذه الكثرات والاختلافات جميعاً، وهذه التغييرات التي تحدث في عالم الوجود باستمرار إذْ نجد كل يوم حوادث لا سابقة لها، كل ذلك دليلٌ واضحٌ وبرهانٌ قاطعٌ على أن هناك مبدأٌ ذو اختيار وإرادة هو مصدر كل هذه الأمور التي مرجعها جميعاً إلى الله ﴿أَلَا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الأُمُورُ﴾ [الشورى/53]، وإرادة الحق السنية هي المدبرة والمديرة لعالم الوجود.
الآيات الواردة في القرآن حول دليل الاختلاف:
1- قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ [المؤمنون/80].
2- وقال سبحانه: ﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ...﴾ [الروم/22].
3- وقال عزَّ من قائل: ﴿إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ﴾ [يونس/6].
4- وقال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا...﴾ [فاطر/27].
5- وقال سبحانه: ﴿وَمِنَ الجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ...﴾ [فاطر/27].
6- وقال أيضاً: ﴿وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ...﴾ [فاطر/28].
7- وقال كذلك: ﴿وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ...﴾ [النحل/13].
8- وقال سبحانه: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا؟﴾ [الزمر/21].
دليل الفطرة لإثبات خالق العالم
يقول الله تعالى:﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا..﴾ [الروم/30]. ويقول حضرة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، ثُمَّ أَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَ يُنَصِّرَانِهِ وَ يُمَجِّسَانِهِ » (137).
والدليل على ذلك أن الناس يتَّجهون بطبعهم وغريزتهم ودون إرادةٍ منهم إلى الله تعالى خالق العالم، ويلجؤون إليه ويستغيثون به وحده في الشدائد والبلايا والمُلِمَّات ولا يعتبرون - في أعمق وجدانهم - أحداً مسبِّباً للأسباب ومسهلاً للأمور الصعاب، سوى ذات الواحد المقدّسة، ويعتبرون أن حلّ المشكلات وقضاء الحاجات وإزالة الكُرَب بيد الله تعالى وفي قدرته، و يعتبرون النجاح والفوز موكولاً إلى إرادة الله ولطفه، وقد أشار الله تعالى إلى هذا المعنى بقوله: ﴿قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ..﴾ [الأنعام/40-41].
سأل شخص حضرة الإمام الصادق عن عبادة الله فقال له: يا عبد الله! هل ركبت السفينة؟ قال نعم. قال: هل حدث أن تحطمت السفينة في عرض البحر ولم يكن هناك من ينقذ السفينة، ولم تكن تعلم السباحة؟ قال: بلى. قال: فهل شعر قلبك بوجود قدرة و قوة أخرى قادرة على نجاتك و على إنقاذك من الغرق والهلاك؟! قال: بلى. قال الإمام: فهذه هي قدرة الله تعالى القادر على إنقاذك ونجاتك حيث لا منقذ و لا منج غيره، وهو القادر على إغاثتك و تلبية استصراخك حيث لا مغيث و لا صريخ غيره.
ولهذا السبب فإن دين الإسلام المبين اكتفى من الناس بالإقرار بوجود الباري تعالى ولم يكلف البشر أبداً أن يتفكروا في ذات الله أو يتعمّقوا في صفاته، بل جعل مثل هذا التعمّق مختصّاً بطائفة خاصّة من الناس يبحثون عن الزيادة في التبصّـُر والمعرفة، وذلك لأن الناس جُبِلوا بفطرتهم وغريزتهم على التوحيد، والاستدلالات العلمية والبراهين الفلسفية ليست إلا لأجل الرّد على أهل الضلال والذين انحرفوا عن جادة الفطرة السليمة، رغم أن أصل معرفة الباري تعالى أمرٌ فطريٌ [لا يحتاج إلى دليل أو برهان] ويكفي أقل مقدار من التنبُّه واليقظة لسلوك جادة المعرفة. لكن للمعرفة بحد ذاتها درجات مختلفة ومراتب متعددة وتتفاوت شدةً وضعفاً وبطأً وسرعةً وقلّةً وكثرةً وكشفاً وشهوداً وتختلف عقول الناس وأفهامهم في إدراك ذلك طبقاً لاختلافها في مداركها، فكل شخص لديه طريق يصل به إلى المقصود، فالهداية والوصول إلى المعرفة الإلـهية و الارتواء من سلسبيل التوحيد بعدد نفوس الخلائق، كما قال بعضهم: «الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق»، ويقول تعالى: ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللهِ...﴾ [آل عمران/163]، ويقول كذلك: ﴿يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ...﴾ [المجادلة/11].
يتبـيَّن مما ذُكر أن أجلى الموجودات وأظهرها ذات الباري جل جلاله، فلا بد إذن أن تكون معرفته أول المعارف البشرية، ومبدأ معلومات الإنسان، ولا بد أن يكون فهمها أسهل المفاهيم لعقول وأذهان البشر، ولكننا نرى أن الأمر على العكس من ذلك، فلا بد أن لذلك سبباً يجب أن نكتشفه.
أما قولنا إن الله تعالى أجلى الموجودات وأظهرها فهذا يمكن إثباته بالمثال الصغير التالي: عندما نرى شخصاً يكتب كتاباً أو يخيطُ لباساً فإن أظهر وأجلى ما يظهر لنا من صفات هذا الشخص هو الحياة والعلم والقدرة، أما صفاته الباطنية مثل غضبه وشهوته وخُلُقه، ومَرَضِهِ وصحّته فلا تكون معلومة لنا، كما أننا لا نميِّزُ جميع صفاته الظاهرية في المرحلة الأولى، ونشك في بعض صفاته الظاهرية الأخرى، ولكن الصفات التي هي أظهر من جميع الصفات الأخرى، والتي يتوجه إليها ذهننا منذ الوهلة الأولى، أعني صفة وجود الحياة والعلم القدرة، لا يشك ذهننا فيها أبداً، علماً أن الصفات ليست مثل بعض الصفات الظاهرة للعيان، كلون البشرة والطول والعرض التي تدركها حواسنا الخمس فوراً، لكنها صفات ندركها مباشرةً بمجرد ملاحظتنا لحركة يد الكاتب في كتابته أو في خياطته فندرك إرادته وعلمه وحياته.
كذلك إذا ألقينا نظرة على العالم وعلى ما سوى الله وشاهدنا ما تدركه حواسنا الخمس فيه من برٍّ وبحرٍ وجبل وصحراءٍ ونباتٍ وجمادٍ وحيوانٍ وكواكب سماويةٍ ونجومٍ ثابتةٍ وسيّارةٍ وقمرٍ وشمسٍ، وتأملناها بدقة، ولاحظنا هذه الحركة الدائمة وهذه الموجودات والمصنوعات المختلفة وهذه التطورات المتنوعة والتحولات العديدة التي نجدها في أنفسنا وفي بني نوعنا وفي جميع ذرات العالم، أدركنا وجود صانعٍ للعالم ذي حياةٍ وعلم وقدرة، وأقررنا واعترفنا به، بل قبل أن ندرس ونتأمل العالم يمكننا أن تأمل أنفسنا ونتأمَّل الحركات والأطوار الناشئة عنها؛ فبمشاهدة أعضاء بدننا ورأسنا وأيدينا وأرجلنا ورقبتنا ودماغنا وقلبنا ندرك ونفهم أنها مصنوعة من قَبِل صانع قدير عالم وحيٍّ، ولما كان العلم بالأنفس من أسبق العلوم كانت نتيجة هذه المشاهدة والعلم - أي الإقرار بوجود صانع حيِّ مدركٍ - أظهر وأسبق وأجلى من جميع المعارف.
وإذا كانت يد الكاتب والخياط تدل على علمه وحياته وقدرته فكيف لا تدل كل هذه الموجودات من بشر وحيوان ونبات وجماد واختلاف للأنواع والأنفس وتركيب الأعضاء واللحم والجلد والعظم والأعصاب، والخلاصة كل الذرات فرداً فرداً، على وجوده تعالى وكيف لا تكون شاهداً ناطقاً بأعلى صوته على قدراته وحياته وعلمه؟! لقد أذهلت مشاهدة هذا المعنى العقول وأعجزت الأفكار في وادي الحيرة، فأيُّ عينٍ لم تذهلها مشاهدة العظمة وأي عقل لم يبهت ويتحير من مطالعة الجمال والجلال اللامتناهيين.
صعوبة فهم التوحيد:
تنشأ صعوبة إدراك أي حقيقة والإشكال في فهمها من أحد سببين: إما من غموض الموضوع نفسه ودقّته وتعقيده، أو على العكس من شدة وضوحه وظهوره!! مثال الأول: واضح، وأما مثال الثاني فهو خفافيش الليل التي تعجز عن رؤية الأشياء في وضح النهار بسبب شدة إشراق الشمس والنور الذي يبهر بصرها الضعيف فلا تستطيع أن ترى شيئاً، فإذا غابت الشمس وانحسر نورها وحلّ الظلام انطلقت من أوكارها باحثةً عن فريسةً تصطادها لتواصل حياتها.
وعقولنا وأفكارنا أيضاً ضعيفة، وجمال الحضـرة الإلهية في غاية الإشراق والظهور وغاية الإنارة وأقصى مراتب الإحاطة والشمول فلا يعزب عن قدرته وعلمه ذرة في السموات ولا في الأرض ﴿هُوَ الأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [الحديد/3]؛ وكل جزئيات عالم الطبيعة من أصغرها إلى أكبرها صنع يدي قدرته لذلك فإن معرفته والعلم به لا يخلوان من إشكال وإبهام، فسبحان الله الذي أَوْجَبَتْ شدَّةُ ظهوره ووضوحه خفاءَهْ، والذي حجبته عن العيون والأبصار عظمته اللامتناهية، ولا ينبغي التعجب من هذا المعنى لأن جميع الموجودات الأخرى إنما تُعْرَف بأضدادها:
ظهور جمله اشياء بضِدّ است   ولى حق را نه مانند و نه نِدّ است
أي:
ظهور جميع الأشياء بضدها     ولكن الحق ليس له نظير ولا ندّ
إن الحقيقة التي يعمّ وجودها جميع الأشياء ويحيط بها، ويعم فيضها كل شيء، لن تخلو معرفتها وفهمها من إشكال وصعوبة، لأن جميع الأشياء مختلفة عن بعضها وانطلاقاً من خواصٍّ كلٍّ منها يتيسَّر التعرف على أضدادها، أما لو كان لها جميعاً دلالة عامة ومشتركة، لما خلا فهمها من صعوبة، كما أنه لو كانت الشمس مشـرقةً دائماً في وسط السماء ولم يكن هناك دوران للأرض حول نفسها وحول الشمس ولم يمنع أي شيء عبور نور الشمس نحو الأرض، لكان فهم وإدراك حقيقة أنه هناك نور في العالم من الأمور المشكلة، ولاعتبر الناس أن الألوان نابعة من ذات الأجسام، ولتصوروا أن حقيقة الأجسام هي ذات لونها، وإذا حَدَّث عالمٌ الناسَ عن النور وفوائده لأنكروا كلامه، ولو قال لهم إن كل هذه الألوان المختلفة والمتنوّعة التي ترونها إنما هي أَثَرٌ لموجودٍ اسمه «النور» فإذا ذهب النور لم يبقَ هناك لون ولم تشاهدوا أسوداً ولا أبيضاً لَعَسُرَ عليهم فهم كلامه ولقام أغلب الجهلاء وضعفاء العقل بتكذيبه والسخرية منه.
ولكن لما كانت الأرض تتحرَّك وتدور حول نفسها باستمرار وكانت الشمس نتيجةً لذلك تشرق ثم تغرب كل يوم ويحل الظلام عند غروبها فلا يعود الناس قادرين على تمييز الألوان عن بعضها ولا حتى رؤية الأجسام لأن رؤيتها لا تتم إلا ببركة النور، عرف الناس النور وأدركوه، فانظروا كيف يوجب الشمول والعمومية والظهور الدائم والتجلي الذي لا ينقطع للشمس عُسْرَ فهم النور وصعوبته!
وكذلك الرحمة الواسعة واللطف العام للحقّ تعالى يوجبان خفاءه عن الأبصار الضعيفة والعقول الكليلة والأفكار المحدودة، ولو انصرف هذا الفيض الشامل لحظة عن العالم وانقطعت هذه الرحمة الواسعة ولو لِـلَمْحة بصر، لغاصت الموجودات في بحر الفناء وفُقِدَت وانعدمت في صحراء العدم ﴿إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾ [فاطر/41] وبهذا تتجلّى المشيئة الأزلية: ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾ [البقرة/255]. ومن كان له نصيب من عقل قوي وفكر نَـيِّر شاهد التجليّات الإلهية في جميع الموجودات ولم يَرَ مؤثراً في الوجود سواه، ولم يلاحظ الموجودات من جانب اليقين بها وتشخُّصها بل لاحظها من جانب كونها صنع الله وآثار إراداته ومشيئته.
وكما يرى شخصٌ كتاباً أو قصيدة شعر فلا يلاحظها من جهة الحبر والورق، بل من جهة أنها خلاصة فكر مؤلفها أو آثار قريحة شاعرها، فكذلك الموحد الحقيقي لا يرى في الموجودات مؤثِّراً سوى الله وفي الكون فاعلاً سوى ذات الحق تعالى.
فكل هذه الأمور المعلومة التي هي واضحة لدى العلماء الخبيرين والعارفين البصيرين، تصبح مشكلةً وصعبةً بسبب ضعف الأفهام ونقص العقول حتى يصل الأمر إلى عجز العلماء والعارفين عن بيانها وتوضيحها بعبارات صريحة بيّنة، فينكب أغلبهم على نفسه ويظن أن لا فائدة من بيانها وإفهامها للآخرين: فهذه هي علة قصور أذهان الناس عن معرفة الحق المتعال.
والسبب الثاني هو أن جميع هذه المدركات والمحسوسات والشواهد التي تدل على وجود الصانع يراها الإنسان بالتدريج منذ زمن طفولته، ومن المعروف أن القوة العاقلة لدى الإنسان في أيام الصبا والطفولة تكون قاصرة لم تبلغ الرشد بعد ولم تصل لحد الكمال، وأن الطفل يكون مستغرقاً في الشهوات ومشغولاً بالمحسوسات، لذلك فإن طول الأنس بالمحسوسات يزيل أهميتها عنده، فإذا شاهد هذا الإنسان نفسه على نحو مفاجئ حيواناً غريباً أو موجوداً مخالفاً لما اعتاد على رؤيته لغرق في بحر التعجب ولانطلق لسانه وطبيعته وفطرته بمعرفة الله، ولقال بلا اختيار منه (سُبْحَانَ اللهِ!)، في حين أن هذا الإنسان ذاته يشاهد ليل نهار أعضاء بدنه وعينيه وأذنيه ودماغه، ويرى سائر الحيوانات التي أنس بوجودها، مع أن خلقتها أعجب وأدق، ومع ذلك لا يتعجب ولا يُصاب بالذهول من رؤيتها، ولا ينطلق لسانه باسم الله وتسبيحه ولا يشعر أنها شاهدةٌ واضحة على وجود الباري، وليس هذا إلا بسبب طول الأنس بها و التعود عليها منذ طفولته، ولو فرضنا أن أعمى منذ الولادة فتح فجأة عينيه بعد أن بلغ سن الرشد والتمييز فأبصـر السموات والأرض والنجوم والجبال لأصيب عقله بالذهول ولانطلق لسانه بذكر الباري تعالى وعظمة خلقه، ولشهد وأقر بأنها جميعاً صنع حيٍّ مدركٍ وعليمٍ خبيرٍ، فكذلك انغماس الناس في الماديات وغلوّهم في الشهوات وحاجات الحياة، أغفلهم عن الانتباه لهذا المعنى.
لقد ظهرتَ فلا تخفى على أحدٍ
إلا على أكمه لا يعرف القمرا
لكن بَطُنْتَ بِمَا أَظْهَرْتَ مُحْتَجِبَاً
وكيف يُعْرَفُ من بالعُرْف اسْتَتَرا
وَ قد جاء هذا الأمر فِي كَلَامِ سَيِّدِ الشُّهَدَاءِ أَبِي عَبْدِ اللهِ الْحُسَيْنِ بنِ عَلِيٍّ عليه السلام حَيْثُ قَالَ فِي دُعَاءِ عَرَفَةَ: «كَيْفَ يُسْتَدَلُّ عَلَيْكَ بِمَا هُوَ فِي وُجُودِهِ مُفْتَقِرٌ إِلَيْكَ؟ أَيَكُونُ لِغَيْرِكَ مِنَ الظُّهُورِ مَا لَيْسَ لَكَ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الْمُظْهِرَ لَكَ؟؟ مَتَى غِبْتَ حَتَّى تَحْتَاجَ إِلَى دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْكَ؟ وَمَتَى بَعُدْتَ حَتَّى تَكُونَ الْآثَارُ هِيَ الَّتِي تُوصِلُ إِلَيْكَ؟ عَمِيَتْ عَيْنٌ لَا تَرَاكَ وَ لَا تَزَالُ عَلَيْهَا رَقِيباً وَخَسِرَتْ صَفْقَةُ عَبْدٍ لَمْ تَجْعَلْ لَهُ مِنْ حُبِّكَ نَصِيباً»(138).
توحيد القرآن :
لا يعلمُ عامَّة الناس من التوحيد سوى توحيد الربوبية وهو الإقرار بأن الله خالق جميع الأشياء، وهذا التوحيد يعترف به المشركون وعُبَّاد الأصنام أيضاً كما قال تعالى في قرآنه المجيد: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ..﴾[لقمان/25]، ويقول كذلك: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾ [يوسف/106].
وإنما التوحيد الذي أمر الله به العباد هو توحيد الألوهية المتضمن لتوحيد الربوبية بأن يُعْبَدَ اللهُ وحدَه لا يشركون به شيئاً فيكون الدينُ كلُّه لِـلَّهِ ولا يُخافُ إلا اللهُ ولا يُدْعَى إلا اللُه، ويكونَ اللهُ أحبَّ إلى العبدِ من كلِّ شيءٍ فيُحِبُّونَ لِـلَّهِ ويبغضون لِـلَّهِ ويعبدون اللهَ ويتوكَّلُونَ عليه.
 والعبادة تجمع غاية الحب وغاية الذلّ، فيُحِبُّونَ اللهَ بأكمل محبَّةٍ ويذلون له أكمل ذلٍّ ولا يعدلون به ولا يجعلون له أنداداً ولا يتَّخذون من دونه أولياء ولا شفعاء؛ كما قد بين القرآن هذا التوحيد في غير موضع، وهو قطب رحى القرآن الذي يدور عليه القرآن(139).
وقد كتبنا في هذا الباب رسالةً بيَّنَا فيها مراتب الشـرك ونحيل القراء الكرام إليها، ونسأل الله تعالى أن يأجرنا عليها و نذكر هنا بعض الأمور على نحو الإشارة.
وتوحيد الألوهية هذا يتضمَّن التوحيد في العلم والقول والتوحيد في الإرادة والعمل.
 فالأول كما في قوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (1) اللهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [الإخلاص/1-4].
وأما التوحيد في العبادة والإرادة والعمل فكما في سورة: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ [الكافرون/1-6].
والتوحيد الأول يتضمن إثبات نعوت الكمال لِـلَّهِ بإثبات أسمائه الحسنى وما تتضمنه من صفاته، والثاني يتضمن إخلاص الدين لرب العالمين، كما قال تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [البينة/5].
فالأول براءة من التعطيل والثاني براءة من الشرك. وأصل الشرك إما التعطيل: مثل تعطيل فرعون موسى وتعطيل الذي حاج إبراهيم في ربه خصم إبراهيم، وإما الإشراكُ: وهو كثير في الأمم أكثر من التعطيل وأهله خصوم جمهور الأنبياء. وفي خصوم إبراهيم عليه السلام وخاتم النبيين محمد صلى الله عليه وآله وسلم معطلةٌ ومشركةٌ، لكن التعطيل المحض للذات قليل وأما الكثير فهو تعطيل صفات الكمال وهو مستلزمٌ لتعطيل الذات.
ثم إنه كل من كان أقرب إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة الهدى وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، كان أقرب إلى كمال التوحيد والإيمان والعقل والعرفان، وكل من كان عنهم أبعد كان عن ذلك أبعد.
وقد سلك الناس في إثبات توحيد الإلـهية والفاعلية مسالك مختلفة، وقد ذكَرَتْ كتب القوم من الفلاسفة والمتكلِّمين كل ذلك بالتفصيل، ولما كان كتابنا الحالي مبنيٌّ على توضيح أدلة القرآن، فإننا نُعْرض عن ذكر أدلة الفلاسفة والمتكلِّمين ونحيل القرَّاء الكرام إلى الكتب المدوَّنة في هذا الباب، ونكتفي هنا بذكر دليل القرآن على توحيد فاعلية خالق العالم سبحانه وتعالى.
دليل القرآن على توحيد الفاعلية:
إن مسلك القرآن لإثبات هذا التوحيد هو معرفة مضمون كلمة ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ [البقرة/163]، إذْ في هذه الآية نفيٌ زائد على الإثبات، وقد جاء نفي الألوهية عما سوى الله في ثلاثة مواضع من الكتاب المجيد:
1- قوله تعالى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ العَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾ [الأنبياء/22].
إن دلالة هذه الآية الكريمة على معنى التوحيد واضحة وجليّة لأن كل شخص يعلم أنه لو أراد مَلِكَان أن يقوما بعمل ما في مجال سلطانهم، لفسد هذا العمل ولما استطاع الملكان أن يديرا المملكة سويةٍ لأنه لا يمكن صدور فعلٍ واحد من فاعلين من نوع واحد، فإما أن تضيع أمور البلاد أو أن يتنحى أحد الملكين ويستفرد الآخر وحده بالملك، وكلا الصورتين تنافيان الإلوهية!.
2- قوله تعالى: ﴿مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾ [المؤمنون/91].
قوله ﴿وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ﴾ أي ليس مع الله إلهٌ ثانٍ يشاركُ اللهَ في ألوهيته، والبرهان الذي ذكره الحق تعالى على ذلك هو قوله ﴿إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ﴾ أي لو كان هناك إله ثان لكان خالقاً وَلَذَهَبَ بمخلوقاته الخاصة به، ولكانت مخلوقات كل إله ممتازة ومنفصلة عن مخلوقات الإله الآخر؛ في حين أننا لا نجد في عالم الوجود مثل هذا الانقسام في المخلوقات، بل عالم الوجود عالم واحد، فثبت أن للكون إلهٌ واحدٌ.
وأيضاً لو كان مع الله إله آخر لانفرد على (ذلك) كلُّ واحدٍ من الإلهين بخلقه الذي خلقه واستبدَّ به، ولرأيتم مُلك كل واحد منهما متميزاً عن مُلك الآخر، ولغلب بعضهما على بعض كما ترون حال ملوك الدنيا: ممالكُهُم متميِّزَة وهم متغالبون، وحيث لم تروا أثر التمايز في الممالك والتغالب، فاعلموا أنه إله واحد بيده ملكوت كل شيء. سبحان الله عَمَّا يَصِفُون.
3- قوله تعالى: ﴿قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آَلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي العَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً﴾ [الإسراء/42-43].
هذه الآية مثل الآية الأولى أي تتضمن برهان امتناع أن يكون لإلهين متميِّزَين فعلٌ واحدٌ.
وتفسير الآية أنه لو كان في الأرض والسماء آلهة غير الله الحق، قادرةٌ على إيجاد العالم وخلقه، وكانت نسبة تلك الآلهة إلى العالم عين نسبة الله تعالى إليه، لوجب أن تكون مع الله على العرش، وللزم من ذلك أن يكون هناك لموجودين متماثلين في محل واحد، نسبة واحدة، وهذا ممتنع لأنه عندما تتحد النسبة يتَّحد المنسوب، كما أنه لا يمكن لموجودين أن يحّلا في محل واحد، ولكن الأمر بشأن نسبة الله إلى العرش على العكس من ذلك أي أن العرش قائمٌ بالله لا أن الله قائم بالعرش، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾ [البقرة/255]. فإذا امتنع قيام العالم بموجودين، نتج عن ذلك أن مبدأ العالم واحدٌ.
تلك كانت الأدلة القرآنية على امتناع وجود إلهين، والدليل الذي استنبطه المتكلمون من الآية الثانية وسموه دليل التمانع، ليس دليلاً طبيعياً ولا دليلاً شرعياً، أما عدم كونه دليلاً طبيعياً فلأنه ليس ببرهان منطقي سليم، وأما عدم كونه دليلاً شرعياً فلأن العوام غير قادرين على فهمه فضلاً عن أن يقتنعوا به!
والدليل الذي يذكرونه هو كالتالي: إذا كان هناك إلهين لجاز أن يختلفا فإذا اختلفا لم يَخْلُ الأمر من أحد ثلاث احتمالات لا رابع لها: إما أن يحصل مرادهما، أو لا يحصل مراد أيٍ منهما أو يحصل مراد أحدهما ولا يحصل مراد الثاني.
على الأول - يجب أن يكون العالم موجوداً ومعدوماً في الوقت نفسه وهذا من المحالات. وعلى الثاني - يجب أن يكون العالم غير موجود وغير معدوم وهذا أيضاً من الممتنعات، وفي الحالة الثالثة: يكون مَنْ تحقَّقت إرادته هو الإله الحقّ أما من عجز عن تحقيق إرادته فليس له من الإلهية نصيب لأن الإله لا يمكن أن يكون عاجزاً.
إن وجه الضعف والخطأ في هذا البرهان هو أنه كما يجوز أن يختلف الإلهان فإنه من الممكن أن يتفقا، فلابد من ذكر بطلان وجود إلهين في هذه الحالة الرابعة أيضاً (أي حالة اتفاقهما). وطريقة إثبات فساد صورة التوافق أن نقول إذا اتفق وتعاون هذان الإلهان في كل شيء، كالصانعين اللذين يتعاونان على صنع شيء واحد، للزم من ذلك أن لا يكون أيٌّ منها إلهاً، لأن التعاون من صفات المحتاج وهو لا يليق بمقام الربوبية. وإذا خلق كلٌّ منهما جزءاً من العالم دلَّ ذلك على أنه قادر على خلق الأجزاء الأخرى أيضاً ومع ذلك اكتفى بخلق ذلك الجزء، وهذا المعنى يوجب النقص في حقِّ كلٍّ منهما، ولا يليق بخالق العالم، إذن لابد أن يكون لكلٍّ منهما عالمٌ مستقلٌّ عن عالم الآخر.
لكننا نجد أن العالم واحد، فهذا إذن يدل على أن إله العالم واحد أيضاً.
يتبيَّن مما ذكرناه أن المعنى الذي استنبطناه من الآية الكريمة غير المعنى الذي ذكره المتكلمون، والواقع أن الذي يظهر من قوله تعالى ﴿وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ [المؤمنون/91] ليس فساد جهة المخالفة، بل بطلان صورة الموافقة أيضاً، لأن برهان المفسرين من قبيل القضية الشرطية المنفصلة في حين أن ما تدل عليه الآية هو من قبيل الشرطية المتّصلة.
وأما المُحالات التي هي مرجع دليل المتكلمين، فهي أن العالم إما أن يكون موجوداً وفي الوقت ذاته معدوماً، أو أن يكون غير موجود وغير معدوم في آنٍ واحدٍ، أو أن يكون الله عاجزاً ومغلوباً، وكل هذه مُحَالَات ممتنعة الوجود إطلاقاً ودائماً، أي أن امتناعها دائمٌ وليس محدوداً بوقت معين.
أما المحال الذي يرتكز عليه برهان كتاب الله تعالى، فهو مؤقت وهو عبارة عن فساد العالم عند وجوده.
دليل القرآن على إثبات النبوة:
يستند استدلال القرآن على النبوة على أصلين:
الأصل الأول: أنه من المتواترات والمسلّمات أنه قد وجد صنفٌ من البشر عُرِفوا بالأنبياء والرسل، وأشخاص هذا الصنف كانوا مؤيَّدين بالوحي الإلهي لا بالتعليم البشري، وقد وضعوا شرائعَ وأدياناً للناس. وإنكار هذا الصنف من الناس إنكار للبديهيات، كما أن الإنسان لا يمكنه أن ينكر الفلاسفة والمخترعين والأطباء والقادة السياسيين بين البشر.
ذلك لأن جميع العلماء و الكبار والفلاسفة وقاطبة الخلق (سوى عدة قليلة لا تستحق الاعتناء بها ويُعْتَبرون من الدَّهرية الملاحدة) اتفقوا على أنه وجد في الأزمنة الماضية أشخاص كان ينزل عليهم الوحي من قِبَلِ الله، وأنهم كانوا - انطلاقاً من ذلك الوحي الإلهي - يدعون الناس إلى العلم والمعرفة والأعمال الصالحة الموجبة لسعادة النشأتين، وكانوا ينهونهم عن الاعتقادات الفاسدة والأعمال القبيحة، ومن الواضح أن هذا الصنف من الأعمال والأقوال منحصـرٌ بالأنبياء العظام والرسل الكرام. والدليل على هذا الأصل من كتاب الله:
1- قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً﴾ [النساء/163-165].
2- وقوله تعالى: ﴿قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ [الأحقاف/9].
الأصل الثاني: أن كل من وضع شريعةً بالوحي الإلهي، يُسَمَّى نبياً، وهذا الأصل لا شبهة فيه وغير قابل للتشكيك، لأن كل شخص يعلم أن الطب هو شفاء المرضى وكل من مارس هذا العمل قيل له طبيب، والنبوة وضع الشرائع بوحي الله وكل من قام بهذا العمل قيل له: نبيٌّ ورسولٌ، والشاهد على هذا الأصل كتاب الله.
1- ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ...﴾ [النساء/174].
2- ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآَمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِـلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [النساء/170].
3- ﴿لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا﴾ [النساء/166].
4- ﴿لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ...﴾ [النساء/162].
فإن قيل ما هو ميزان معرفة الأصل الأول (وجود الأنبياء والرسل) وكيف لنا أن نعرف أن أشخاصاً ما أنبياء، ومن أين لنا أن نتأكد أن ما يقولون من أمور وآيات هو وحي الله؟.
قلنا في الإجابة: أول ميزان يُعْرَف به الأنبياء والرسل هو إنذارهم وتخويفهم من الأمور المستقبلة وقد رأينا أن كل ما أنذروا وقوعه وقع تماماً كما قالوا، والميزان الآخر هو الكلمات والأقوال التي تصدر عن الأنبياء من المسائل العقلية التي لا سبيل للعقل البشري إليها، وكذلك الأفعال الحسنة والصالحة التي لا ينجح البشر أبداً في الاتصاف بها أو المحافظة عليها، فجميع أقوال هذا النمط الرفيع من الناس وجميع كلماتهم وأقوالهم تعد أموراً خارقة للعادة ومعجزات تكشف أنهم مبعوثون فعلاً من قِبَل الحق تبارك وتعالى.
إن هذا النوع من الخوارق في وضع الشـرائع وبيان المعارف الحقيقية وحل المشكلات الكونية التي لا سبيل للعقلاء والفلاسفة إليها، مما يعلنه الأنبياء والرسل للناس استناداً إلى ما يوحى إليهم من الله، والذي يمكن أن نطلق عليه اسم «المعجزات العقلية»، أقوى في دلالته على النبوة من الخوارق والمعجزات الحسّيّة من قبيل تحويل العصا إلى ثعبان وفلق البحر وأمثالها، والتي تنضم إلى الخوارق العلمية للأنبياء، فمعجزة الرسل أولاً وبالذات هي العلم والعمل، والمعجزات الحسية مؤيدة وداعمة للمعجزات العقلية، ودلالة المعجزات العملية على النبوة دلالة قطعية أما المعجزات الحسية فهي بمثابة شاهد داعم للمعجزات العقلية.