التصوف هو فن الوصول إلي الله.. أو هو فن عبادة الله.. أو هو حب الله تبارك وتعالي، إن عبادة الله هي قمة من قمم الحب، والصوفي هو ذلك الشخص الذي وصل أعلي مراحل الحب في الله ،فالصوفية تنظر إلي الحب كعنصر أصيل من عناصر الكون وسبب مهم من أسباب الخلق. إن الله سبحانه وتعالي حين خلق هذا الكون خلقه علي الحب أزواجا وتآلفا وتآخيا، ورحمة ومودة، وتعامل بالحسني، كلها تعاليم إلهيه تدعونا إلي الحب بكل بساطة، دون عناء أو مشقة، ولكي يكون هذا الحب خالصا، لابد من معرفة من نحب، فمن عرف عن الله أكثر أحبه أكثر، ومن لم يعرف عن الله إلا القليل كان حبه علي قدر معرفته، أن الحب عطاء وتكرم كما يوجز الرومي وأن الله هو الذي يملك العطاء وحده والكرم. أن الله عز وجل هو المعطي الوهاب هكذا ينظر الصوفية للعالم..
إنهم يرون الحب قانونا حاكما في الوجود وسببا في ميلاد الكون، ومن هنا كنا علي موعد مع عالمين جليلين من علماء الصوفية جلال الدين الرومي وابن عربي لنقترب أكثر من هذا العالم المليء بالحب .. عالم الصوفية.
هو محمد بن محمد بن حسين بهاء الدين البلخي، هو بالفارسي جلال الدين محمد بلخي، عرف أيضا باسم مولانا جَلَال الدِّين الرُّومي، هو شاعر، عالم بفقه الحنفية والخلاف وأنواع العلوم، ثم متصوف كما يقول مؤرخو العرب. وهو عند غيرهم صاحب المثنوي المشهور، وهو صاحب الطريقة المولوية المنسوبة إليه. تركت أشعاره ومؤلفاته الصوفية التي كتبت بلغته الأم الفارسية تأثيرا واسعا في العالم الإسلامي وخاصة علي الثقافة الفارسية والأردية والبنغالية والتركية، وفي العصر الحديث ترجمت بعض أعماله إلي كثير من لغات العالم ولقت صدي واسعا جدا، ومما زاد الإقبال علي قراءته في هذه الآونة الأخيرة ما قدمته الروائية التركية أليف شفق في روايتها الأكثر مبيعا وشهرة " قواعد العشق الأربعون " حول علاقته بالشاعر الفارسي شمس الدين التبريزي.
"جلال الدين الرومي بين الصوفية وعلم الكلام "هو عنوان أحدث الكتب التي تروي جوانب جديدة في حياة الرومي وعصره وآرائه، الذي صدر عن الدار المصرية اللبنانية للكاتب عناية الله إبلاغ الأفغاني.
الكتاب يتناول في بدايته تاريخ الصوفية وتطورها حتي عصر جلال الدين الرومي، ثم يبدأ في تناول سيرة جلال الدين وحياته ونشأته، ثم مؤلفاته وآثاره، ثم يفرد فصلاً حول علاقته بالصوفية وآرائه الصوفية، وخصص آخر فصول الكتاب حول تأثر جلال الدين الرومي بعلم الكلام وأهم آرائه الفلسفية التي دعت البعض إلي تصنيفه ضمن علماء الكلام، وليس من علماء التصوف الإسلامي.
ويعد هذا السفر القيم عن جلال الدين الرومي كشفا للمحن الشديدة التي تعرض لها في سبيل نشر آرائه، وكسبا للتراث الأدبي الإسلامي، حيث استطاع هذا العالم الثبت والصادق ان يشق طريقا تصوفيا جاذبا لكل اتباعه ومريديه، فالقرن السابع الهجري الذي عاش فيه جلال الدين الرومي جدير بدراسة خاصة.. أنه عصر من عصور التحول في الشرق الإسلامي، والذي يستعرض تاريخ هذا القرن وخاصة في ايران، يجد ان ظروف التصوف كان طبيعيا في هذا الجو الذي لا أمان فيه لأحد، والذي كان الاسلام فيه في خطر، لولا مصر من ناحية وعلماء الفرس من ناحية أخري، ففي هذا الجو عاش جلال الدين الرومي والذي كان مثله الاعلي الغزالي، حيث تفقه في علوم الدين ثم درس التصوف وراقه ان يكون من رجاله، وتحدث هنا نقطة التحول الكبري في حياة جلال الدين الرومي حينما التقي بشمس تبريز، فقد الهاه هذا الصوفي عن مسيرته كفقيه وجعل منه صوفيا غارقا في التصوف حتي اذنيه. وإن كان تصوفه لم ينسه ثقافته الدينية الشرعية التي نشأ عليها.
لقي جلال الدين الرومي عناية فائقة من علماء المسلمين والمستشرقين، وكتب عنه الكثير، وقلما ظفر مفكر فارسي مسلم بمثل ما ظفر به إنتاج جلال الدين من عناية. كتب عنه إنتاج ضخم بالفارسية والعربية والأوردية، ثم بالإنجليزية والفرنسية والألمانية.
في العربية ظهر «المثنوي" بقلم يوسف المولوي في أوائل هذا القرن، نقله إلي العربية نقلًا دقيقًا واعيًا للمعاني، وإن كان تعبيره العربي مشوبًا بعجمة قليلة، فقد كان يوسف من مريدي جلال الدين وأتباع طريقته، فكان فهمه للمقصود صادقًا دقيقًا، وتبعه عبد الوهاب عزام فانتقي «مختارات المثنوي" وعزام أستاذ ذواقة يعرف ما يختار، فأثارت مختاراته في الجامعة محبة التوسع في التعريف بجلال الدين، وجرت علي الألسن أشعار عزام العربية التي ترجمها عن الفارسية في دقة الأديب الشاعر، والصوفي المدرك لدقائق المعاني التي قصدها الرومي؛ وجاء الجواهري فنظم المثنوي - ورأيت من نظمه جزءين - فأبدع، ثم كان كفافي الذي ترجم نثرًا ثلاثة أجزاء، ولكن الأجل المحتوم لم يدع له فرصة لإتمام ما بدأه.
في الفارسية كتب عنه كثيرون من كبار علماء الفرس وأدبائهم، ولكن حسبنا أن نذكر أن فروزا نفر خص جلال الدين بكتاباته، وكتابته جامعة مانعة، وخاصة عن الرومي. وفي الأوردية - والفارسية أيضًا - يظهر الرومي في كل أشعار محمد إقبال، فهو عاشق له، تابع لطريقته، سائر علي منواله، يرنو إلي ما كان يرنو إليه جلال الدين، وإنك لتحس بروح جلال الدين تسري بين سطور ما نظمه إقبال. وعنه كتب أوردية كثيرة، أما الإنجليزية فظهر فيها ترجمة كاملة للمستشرق نيكلسون ؛ وفي الفرنسية ظهر حديثًا كتاب السيدة الجليلة المسلمة إيـڤـا دي ڤـيتري، وهو من خير ما قرأت عن جلال الدين بهذه اللغة. وفي الألمانية إنتاج وفير عن الرومي.
إن القرن السابع الهجري، الذي عاش فيه جلال الدين الرومي جدير بدراسة خاصة، إنه من عصور التحول في الشرق الإسلامي. ظهر المغول واستطاع جنكيزخان أن يجتاح مملكة خوارزم شاه جلال الدين منكبرتي، واجتاح هولاكو الإمارات التابعة للخوارزم شاهية، ثم اجتاح بغداد وفي قسوة قاسية وببطش قتل المستعصم آخر خلفاء بغداد العباسيين ورمز الوحدة الإسلامية في ذلك الوقت، ثم قتل ما قتل وخرب وأحرق، ولولا الطوسي ومن معه لقضي علي الإسلام في الشرق الإسلامي
عناية والرومي
وفي عصرنا الحديث جاء الدكتور عناية الله إبلاغ ليقدم لنا هذه الدراسة التي يثبت فيها قدرة الرومي البيانية علي إظهار فكرة التصوف في تقوية الذات ويبين ألا تعارض بين التصوف وعلوم الدين وأن العلماء الذين صفت قلوبهم وعملوا في دنياهم يبتغون مرضاته هم سالكون مثل جلال الدين الرومي.
تناول الكاتب في الفصل الأول " التصوف " بكل أنواعه : علم ومعرفة وسلوك يقرب الإنسان إلي الله تعالي وكر كل التعريفات التي تضمنها معني التصوف، وتناول التصوف في الإسلام وكما يقول أبو الحسن النوري رحمه الله : " الصوفية قوم صفت قلوبهم من كدورات البشرية وآفات النفس، وتحرروا من شهواتهم حتي صاروا في الصف الأول والدرجة العليا مع الحق، فلما تركوا كل ماسوي الله صاروا لا مالكين ولا مملوكين " أي انهم لا يتبعون الهوي. ثم تناول في الفصل الثاني تطور التصوف حتي وصل إلي عهد الرومي وكان يعتقد أن الطريق القويم الذي يمكنه أن يمضي فيه آمنا هو طريق التصوف والتنسك الإسلامي الذي يحتوي علي مغزي الشريعة. ثم أفرد فصلا كاملا عن تأثره بشمس الدين التبرزي، وتعرض الكاتب إلي مؤلفات الشاعر الصوفي " المثنوي " الذي يضم أصول الدين والسنة وكتاب " فيه ما فيه " الذي يشتمل علي المواعظ والقصص والأمثال، وهناك فصل آخر يشتمل علي العشق الصوفي والحب الإلهي وقد وضع عدة تعريفات للحب منها : "سمي الحب حبا لأنه يمحو به القلب عما سوي المحبوب ". " الحب أن يقول المحب لمحبوبه يا أنا "وهناك الكثير من التعريفات التي تعكس أسمي معاني الحب لدي الرومي.
الكتاب رحلة روحانية تعلو بالنفس إلي أعلي درجات الحب الإلهي والسمو الروحي من خلال قصة حياة جلال الدين الرومي ومؤلفاته وآرائه ومقولاته، كان الرومي صوفيا بمعناه الحقيقي ومفهومه الإيجابي، وكان شاعرا فنانا أديبا عالما وسياسيا عالج القضايا العقيدية بالبيان الرائع بحيث نحس من التعمق فيها أن المعنويات أكثر لذة من غيرها، لقد أراد الوصول إلي الحقيقة التي يعترف بها والحقيقة التي تأخذه إلي الصدق واليقين.
الخميس أبريل 11, 2024 10:27 pm
