كانت الباخرة تسير ببطء .. كأنها سلحفاة تمشي على بطنها .. وأنا مغمى عليّ من فرط الحرارة في علبة السردين التي أنام فيها ..
والمروحة تزن على رأسي بلا جدوى .. ولا أجرؤ أن أفتح بابًا أو شباكًا، فأسراب البعوض تحوم في أفواج كثيفة في الخارج ولا أكاد أتخيل أن أُخرِج إصبعًا حتى لا تهجم عليه في وحشية .
وكلها من بعوض الأنوفيل حامل الملاريا .
وكانت الملاريا بدأت تكتسح المركب .. فالريس حرارته 40، واثنان من البحارة يعانيان رجفة الحُمّى .. وسائح هولندي يهذي في غرفته منذ يومين .. وأقراص الكلوروكين والكاموكين منتشرة في أفواه الركاب كالبومبون .
وكنت أفتح عيني بين بين لحظة وأخرى .. وأنا في ضباب النوم .. فأرى جزائر من النور تسبح طائرة على جنبَيّ السفينة ..
هل أهذى أنا الآخر .. !
وأفرك عيني .. وأحملق حولي جيدًا .. مازالت هناك تلك الجزائر من النور ..
إني لا أحلم ..
إنها جزائر من نباتات الهياسنت سابحة في التيار تضيئها أنوار الباخرة على الجانبين .. وكان قمر خط الإستواء يبدو شاحبًا يغلفه الضباب والبخار، وخطر لي أن أصعد على سطح الباخرة لأشاهد الطبيعة في تلك الساعة من الليل ..
ودهنت وجهي وأطرافي بطارد البعوض .. وخرجت ألتمس الهواء، ولم يكن ثمة هواء .. وإنما رطوبة راكدة تتكثف على الأهداب وعلى الجلد .. وهواء ثقيل له ضغط .
ولم تكن الطبيعة نائمة كما تصورت .. وإنما كانت صاخبة جياشة بالحركة والحياة ..
أسراب الفيلة تملأ المراعي .. وتماسيح النيل الضخمة تمرح حول الباخرة، وقطعان سيد قشطة تستحم .. وآلاف الكروانات والبلابل والعصافير والنسور والطيور الملونة تحلق على ارتفاعات قليلة .. وجيوش الحباحب المضيئة تلمع كسنون الإبر في الظلام ..
وحرب الطبيعة ناشبة على أشدها ..
الحباحب تأكل البعوض .. والضفدع يأكل الإثنين .. والأسماك تأكل الكل .. ثم يذهب الجميع في جوف التمساح في صمت ..
على حين يطل القمر شاحبًا يغلفه الضباب والبُخار .
من كتـــاب : الغابــة
الخميس أبريل 11, 2024 10:27 pm
