نحن في عصر الصراخ ..
مدنية اليوم اسمها بحق .. مدنية الصراخ ..
علاقة الحب صراخ ..
وعلاقة الزواج صراخ ..
وعلاقات المجتمع صراخ طبقي ..
وعلاقات الدول صراخ سياسي ..
والشعارات صراخ فكري ..
والمذاهب تحريض علني للأغلبيات على الأقليات والأقليات على الأغلبيات ولافتاتها المرفوعة هي الصراخ والهتاف والصياح والنباح ..
والبيوت التي ترفع لافتة الحب على بابها .. تعيش حياة هي أقرب إلى الصراع على السلطة منها إلى تعاون المحبة والرحمة بين أزواج وزوجات ..
حياة أقرب إلى صراخ يومي وتنازع حكم ورأي في كل شيء وكأنما المطلب الذي يصحو به كل واحد هو من يحكم اليوم .. من يسود .. من يمسك باللجام ..
وإذا أعوزت المرأة مبررات السيادة والقيادة التمستها بالغيرة واتخذت من الشك ذريعة حصار وسببا لإيداع الزوج السجن وإعلان أحكام الطواريء في البيت ليل ونهار ومصادرة الخطابات والتسمّع على التلفونات وتفتيش الملابس الخارجية والداخلية.. فإذا لم تعثر على جسم الجريمة ولم تضبط إحرازاً فإنها تعلن أنه لا بد من تفتيش الدماغ وكسرها إن أمكن بالقباب أو بالحجج الفلسفية حسب درجة ثقافتها وحسب حظها من التربية في بيت أبيها .. فإذا لم تجد شيء في دماغه .. فلا بد إذاً أنه كان هنالك شيء في الماضي قبل أن يتزوجها لابد أنه كان على علاقة ما في يوم ما .. فهذا شأن جميع الرجال الملاعين .. وجميع الرجال ملاعين .. إلى أن يثبت العكس .. ولا يمكن أن يثبت العكس أبداً ..
والمهم أن يصل الحوار إلى صراخ وعويل ولطم وندب ..
ومرة أخرى تتوقف ردود الفعل على حظ الزوجة من الثقافة ومن تربية البيت .
ودائماً في كل زواج هناك شيء ناقص .. إذا وُجِدَ الحب صرخت الزوجة لأنها لا تجد كفايتها من المال وإذا وُجِدَ المال صرخت لأنها لا تجد كفايتها من الحب وإذا وُجِدَ الإثنان صرخت لأن الزوج له ماض وإذا وُجِدَ كل شيء التمست سبباً للنكد في حياة الأولاد .. المهم أن تصرخ وتفش الغل ..
ودائماً هناك غل بسبب وبدون سبب وكأنما الغل هو التراث الحضاري المشترك للنساء جميعاً.
صدق الله العظيم حينما قال في قرآنه عن أهل الجنة :
(( وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ ))
لأن الغل هو السر في الجحيم الذي نعيشه ..
الغل في المرأة وفي الرجل وفي الدولة ..
حتى الغل في الضحك هو عنوان تعاسة .. الضحك المغلول والتهريج المجلجل والمرح الوحشي هو الآخر عنوان افتعال .. ومحاولة مصطنعة لتغطية أصوات القلق والحزن الدفين واليأس الأكّال في داخل القلب بأجراس الضحك وبقرع الكؤوس المخمورة .
والسعادة الحقة لا يمكن أن تكون صراخاً .. وإنما هي حالة عميقة من حالات السكينة تقل فيها الحاجة إلى الكلام وتنعدم الرغبة في الثرثرة .. هي حالة رؤية داخلية مبهجة وإحساس بالصلح مع النفس والدنيا والله واقتناع عميق بالعدالة الكامنة في الوجود كله وقبول لجميع الآلام في رضى وابتسام .
والسعادة الحقة نوع من أنواع شهود الله في آيات عظمته أو كما يقول الصوفي محمد بن عبد الجبار .. هي شهود (( ما لا ينقال ))
يقول لك ذلك الصوفي : إن لم تشهد (( ما لا ينقال )) تشتت بما ينقال وتوزعت بين آلاف المقولات والمغريات وتعلقت بما لا يدوم وبما لا يثبت للحدثان .. كما تتعلق الموجة بالموجة.. وكما يتعلق المتحرك بالمتحرك والناقص بالناقص والزائل بالزائل والمنهدم بالمنهدم .
وهو مثل لجوء الخراب إلى الخراب والخراب لا يصلح ملجئاً ..
ولهذا ينتهي أمرك إلى الخيبة والفشل .
ولهذا لا يصلح التعلق إلا بالله .. لأنه هو وحده الثابت الصامد (( الصمد )) الذي لا يتغير ولا يتقلب ولا تلحق به العوارض .
وبين يدي الله السكينة هي الحال والصمت هو المعرفة
لأن المطلق لا تسعه عبارة ولا تحيط به حروف .. فالجهل به هو عين معرفته والصمت هو عين إدراكه .
ولهذا يرى الصوفي محمد بن عبد الجبار أن الحب بمعناه المتداول وهو ( أن تحتل امرأة عقل رجل وتسد عليه جميع أقطاره وتصبح شاغله ومطلبه الوحيد ) هو باب من أبواب الكفر والشرك
ويقول الإمام الغزإلي نفس الرأي في هذا اللون من الحب الدارج .. أنه سقوط بالهمّة .. لأنه تعلق بهواء .. تعلق الزائل بالزائل .
ولهذا وصف القرآن العلاقة السوية بين الرجل والمرأة بأنها المودة والرحمة .. ولم يسمها حباً ، وجعل الحب وقفاً على علاقة الإنسان بالله ، لأنه وحده جامع الكمالات الجدير بالحب والتحميد وجاءت لفظة الحب في القرآن عن حب الله وحب الرسول .. وجاءت مرة واحدة عن حب المرأة على لسان النسوة الخاطئات حينما تكلمن عن امرأة العزيز وفتاها الذي (( شغفها حباً )) .. وهو حب رفضه يوسف واستعصم منه واستعان بربه وآثر عليه السجن عدة سنين .
وهي جميعاً مؤشرات تكشف عن سبب الإحباط العام والتعاسة في مجتمعات العصر وبيوته .. بسبب حب هو كفر و زواج هو أنانية وصراع طبقي هو حقد ومذاهب هي انتقام وشعارات هي كذب .. وعالم ضاعت منه المودة والرحمة وافتقد الإيمان بالملجأ الحقيقي وأصبح شعاره لجوء الخراب إلى الخراب.
لجوء الشباب إلى الجنس والمخدرات الذي لا يختلف كثيراً عن لجوء أمريكا إلى العنف ولجوء اليهود إلى العنصرية ولجوء الطبقات المطحونة إلى أوهام المذاهب المادية ووعودها وتحريضها .. ثم محاولة إغراق الخيبة النهائية والفشل النهائي في شعار ملفق أو دعاية كاذبة أو مباراة كرة أو صراع ثيران أو طبل وزمر .. ثم يعود فيغرق
الفرد يأسه في حب أو كاس أو نوبة غضب أو رفض لكل شيء أو اتهام للكون وخالقه بالعبثية مع أن الكون كله من أكبر مجرة إلى أصغر ذرة ينطق بالنظام والإحكام والإبداع ويشهد بالخطة .. وبانه لا شيء فيه خُلِق عبثاً.
ويقول أصحابنا الماديون أن الكلام الكثير في الله والدين ترف ليس هذا وقته ولا أوانه ... ويقولون .. لسنا ملحدين ولا دعاة إلحاد إنما نقول فقط أن هذه المسائل غير مطروحة وأن هذا ليس أوانها ..
و أقول لهم أنا : بل هي مطروحة بشدة وهذا أوانها .
أقول لهم أن هذا الصراخ والصياح وخراب النفوس وتمزق الأرواح سببه الأول إعتقاد أصحابها أنهم يعيشون في عالم بلا إله ..
وأنهم يبحثون عن عدل دون اعتقاد في عادل ويحاولون النهوض بحياة يعتقدون أن مصيرها التراب .
وإذا صدّقنا معهم أننا لا نملك إلا لحظتنا وحياتنا هذه فإنه لا يبقى أمامنا إلا أن نتقاتل عليها في بشاعة ثم نموت كلنا وندفن السيد إلى جوار العبد وصاحب العمارة إلى جوار بوابها بدون معنى إلى تلك الضراوة والبشاعة التي تقاتلنا بها .
إعتقاد هو الخراب بعينه .
وحماسة تهزم نفسها بنفسها وتنقض نفسها بنفسها ولا تلد إلا نفوسا شائهة تصرخ وتصرخ بلا مقتضى وبلا موجب مفهوم .
وقديماُ قالوا أن البيوت السعيدة لا صوت لها ولا أحد يتخذ منها مادة للكلام ولا أحد يروي عنها قصة أو يكتب رواية أو ينتج فيلماً ..
وفي رواية الحب التقليدية يسدل الستار دائماً عندما يصل الحبيب والحبيبة إلى المأذون لأن المؤلف يتصور حينئذ أن الكلام انتهى وأنه لم يعد هناك ما يُقال لأن السعادة بدأت والسعادة عنوانها الصمت .
فأين هي تلك البيوت السعيدة الآن ؟
ما أقلّها !
..
د. مصطفى محمود
من كتاب : الروح والجسد
الخميس أبريل 11, 2024 10:27 pm
