المجتمع الإنساني بين الأمن والخطر

المجتمع الإنساني بين الأمن والخطر
قبل حلول عصر العولمة بسلبياته وإيجابياته، عاش المجتمع الإنساني حقباً من الأمن النسبي. وليس معنى ذلك أن العالم لم تقم فيه حروب مدمرة عالمية أبرزها الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية (1939 - 1945) ودمرت فيها عواصم ومدن عامرة، وضاعت أرواح ملايين البشر. لكننا نقصد أنه بعد فترات الحروب العالمية التي كانت تتورط فيها - لأسباب متعددة - دول شتى، كانت تسود فترات سلام تمتعت فيها المجتمعات الإنسانية التي شهد بعضها ازدهاراً اقتصادياً غير مسبوق أدى إلى ارتفاع مستوى جودة الحياة (Quality Of life) في شكل عام، والتي تحولت إلى أحد المؤشرات الأساسية في تقويم التنمية المستدامة، والتي تطورت ليصبح الإحساس بالسعادة هو المؤشر الأعظم على نجاح برامج التنمية أو فشلها.
غير أن حلول عصر العولمة مع ما صاحبه من انفتاح عالمي للأسواق في العالم وشدة الطلب على المنتجات الصناعية وغيرها، أدى إلى المبالغة في استنفاد الموارد الطبيعية من ناحية، وزيادة التلوث وبروز ظاهرة الاحتباس الحراري من ناحية أخرى، وكل ذلك أدى إلى بروز ما يطلق عليه مجتمع الخطر (Risk Society).
وربما كان عالم الاجتماع البريطاني أنتوني غيدنز هو الذي أبرز بقوة العلاقة بين العولمة والأخطار.
يقول غيدنز في كتابه «علم الاجتماع»: «تؤدي العولمة إلى نتائج بعيدة المدى وتترك آثارها على جوانب الحياة الاجتماعية جميعها تقريباً. غير أنها باعتبارها عملية مفتوحة متناقضة العناصر، تسفر عن مخرجات يصعب التكهن بها أو السيطرة عليها. وفي وسعنا دراسة هذه الظاهرة من زاوية ما تنطوي عليه من أخطار، فتغييرات كثيرة ناجمة عن العولمة، تطرح علينا أشكالاً جديدة من الخطر، تختلف اختلافاً بيّناً عما ألفناه في العصور السابقة. لقد كانت أوجه الخطر في الماضي معروفة الأسباب والنتائج، أما أخطأر اليوم فهي من النوع الذي يتعذر علينا أن نعدد مصادره وأسبابه، أو نتحكم في عواقبه اللاحقة». (انظر غيدنز علم الاجتماع، ترجمة فايز الصباغ، بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2005).
هكذا، استطاع غيدنز بهذه العبارات المركزة أن يصوغ مشكلة البحث في موضوع الأخطار، وأن يحدد علاقتها الوثيقة بالعولمة.
ويمكن القول أن الرائد الذي فجر قضية الأخطار ووضعها على قائمة جدول أعمال العلم الاجتماعي المعاصر هو أستاذ علم الاجتماع الألماني إرليش بك الذي أصدر كتاباً شهيراً أثر في أجيال من الباحثين وهو كتاب «سوسيولوجيا الأخطار» الذي كتب أولاً بالألمانية ثم ترجم من بعد إلى الفرنسية والإنكليزية، وله كتب أخرى في الموضوع يتعمق فيها بالبحث في مختلف قضايا الخطر.
وقبل أن نمضي قدماً في عرض الموضوع، سنحاول تقديم تعريف موجز لمجتمع الأخطار.
مجتمع الأخطار هو نظرية اجتماعية تصف إنتاج الأخطار وإدارتها في المجتمع الحديث، والذي كان لإرليش بك، كما ذكرنا، فضل السبق في إثارة الموضوع. وقد ركز بك على دور وسائل الإعلام الجماهيرية في الكشف عن الأخطار ووصف ضروب المصالح السياسية والعلمية المتنافسة والخاصة بكيفية إدارتها.
ولا يعني مفهوم مجتمع الأخطار بذاته أنه مجتمع تزيد فيه معدلات الخطر بقدر ما يعني أنه مجتمع منظم لمواجهة الأخطار، لأنه مشغول بالمستقبل وبالأمن في شكل متزايد. وهو الذي ولّد فكرة الخطر.
وإذا كان البشر تعرضوا للأخطار طوال تاريخهم المكتوب إلا أن المجتمع الحديث معرض لنمط خاص من الخطر، والذي هو نتيجة عملية التحديث ذاتها التي غيرت من التنظيم الاجتماعي. وإذا كانت هناك أخطار نتيجة لأسباب طبيعية كالزلازل والفيضانات، والتي لها آثار سلبية على الناس، إلا أن الأخطار الحديثة من ناحية أخرى هي نتاج النشاط الإنساني في الأساس.
ويمكن تعقب أصول المشكلة بتتبع الرحلة التي خاضها المجتمع الإنساني من المجتمع الصناعي إلى مجتمع الأخطار. وقد ترتب على نشوء المجتمع الصناعي بما يتضمنه ذلك من استخدام واسع للآلات في المصانع والمزارع في البدايات الأولى له، وتطوير الاعتماد على التكنولوجيا التي غزت في الواقع كل ميادين الحياة، ظهور أنواع شتى من الأخطار لم تكن معروفة من قبل.
ويمكن القول أن توفير الضمانات الكاملة للناس مسألة تكاد تكون مستحيلة. غير أنه من ناحية أخرى لا ينبغي المبالغة في إبراز الأخطار لأن المجتمع الصناعي وفر للناس إلى درجة كبيرة أماناً اجتماعياً عالياً.
بل إن الخطر في حد ذاته – كما يرى عالم الاجتماع غيدنز - يمثل مبدأ لتنشيط الطاقات الإنسانية، خصوصاً في ما يتعلق باستكشاف عوالم وأسواق جديدة.
ولكن، ينبغي أن نتحدث في هذا المجال عن الأخطار المحسوبة في أي نشاط إنساني، وسبل الوقاية المتوافرة.
غير أنه يمكن القول أن وجود الأخطار يستدعي ترشيد عملية صنع القرارات الصناعية والتكنولوجية والاقتصادية، ويمكن القول أن عدد الأصوات أو الجرحى في الحوادث التي تترتب على الأخطار ليس الذي يجعل من بعض هذه الحوادث موضوعاً سياسياً، ولكن ظهر أن التطور الصناعي الذي أدى إلى اختراع الأجهزة التكنولوجية الضخمة التي يمكن أن تتولد منها أخطار محتملة هو الذي جعل الأخطار موضوعاً سياسياً.
ولعل ما يضيء الجوانب المعتمة في موضوع علاقة الأخطار بتطورات المجتمع الصناعي تعقب التاريخ السياسي والمؤسسي له باعتباره مجموعة قواعد نشأت من خلال صراعات متعددة للتعامل مع أخطار هذا المجتمع وضروب عدم الأمان التي صاحبت تطوراته المتعددة.
ولا بد من الإشارة إلى تطور نظام التأمين الذي واكب صعود الرأسمالية الصناعية، لأنه كان نظاماً فعالاً يقي الأفراد من عواقب الأخطار أياً كان نوعها.
وقد ترتب على اتساع مجالات المجتمع الصناعي واقتحام مجالات مستحدثة مثل غزو الفضاء وغيره، أن نشأت الحاجة إلى تنمية طرق حساب الأخطار التي اجتمعت العلوم الطبيعية والهندسية والاجتماعية لاستحداث مناهج منضبطة لحسابها، لأن هناك قرارات سياسية واقتصادية وتكنولوجية ومالية بالغة الأهمية سيتوقف إصدارها على دقة حسابات الأخطار.
ويمكن القول أن هناك ثلاثة أنواع من الأخطار هي الأخطار المصنعة والأخطار البيئية والأخطار الصحية. والجديد الذي أضافه أنتوني غيدنز إلى قائمة الأخطار التقليدية هي الأخطار الاجتماعية.
ومن جملة هذه المتغيرات التقلب في أنماط العمالة والاستخدام، وتزايد الإحساس بانعدام الأمن الوظيفي، وانحسار أثر العادات والتقاليد في الهوية الشخصية، وتآكل أنماط العائلة التقليدية، وشيوع التحرر والديموقراطية في العلاقات الشخصية.
ويخلص غيدنز من كل ذلك إلى أن مستقبل الأفراد الشخصي لم يعد مستقراً وثابتاً نسبياً كما كانت الحال في المجتمعات التقليدية، لذلك فإن القرارات مهما كان نوعها واتجاهها، أصبحت تنطوي الآن على واحد أو أكثر من عناصر المخاطرة بالنسبة إلى الأفراد.
ويرى إرليش بك أن الأخطار تؤثر أيضاً في خيارات وقرارات أخرى تتصل بالمؤهلات التربوية والتعليمية، وبالمسارات الوظيفية والمهنية، ذلك لأنه من الصعب التنبؤ بطبيعة المهارات والخبرات العملية التي ستكون مطلوبة في مجالات الاقتصاد المقبلة المتغيرة على الدوام.
وينطبق ذلك على وجه الخصوص على العلاقة بين نظام التعليم واحتياجات السوق. بمعنى أن جيلاً كاملاً من المتعلمين تعلّماً نظرياً قد لا يجدون لهم مكاناً في سوق العمل الذي قد يتطلب في مرحلة تاريخية ما مهندسين أو مختصّين أو عمالاً مهرة. 

من هنا، يصبح اختيار المسار التعليمي نفسه نوعاً من المخاطرة إن لم يضع المتعلم في اعتباره تحولات السوق واحتياجاتها إلى نمط تعليمي معين، وخبرات عملية محددة.
غير أنه – إذا أردنا أن نركز الحديث على أحد أهم مصادر الأخطار في العالم المعاصر - فيمكن القول أنه اتساع دائرة اللامساواة في العالم، والتزايد العميق في الفجوة بين الأغنياء والفقراء في كل المجتمعات الإنسانية من ناحية، وزيادة معدلات البطالة بين الشباب، خصوصاً في المجتمعات النامية من ناحية أخرى.
وكلتاهما ظاهرة تستحق مناقشة موسعة نظراً إلى الأثار الخطيرة لهما على أمن المجتمعات المعاصرة.

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]