هدهد سليمان آية للعالمين

هدهد سليمان آية للعالمين

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
قص الله علينا خبر نبيٍ كريم ابن نبي كريم، آتاه ملكاً عظيماً لم يؤته لأحد قبله، ولن يؤتيَه لأحد بعده، ألا وهو سليمان بن داود عليهما السلام الذي دعا ربه فقال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص: 35]، فاستجاب الله له وسخر له ما سخر من عباده من الجن، والإنس، والطير، وسائر المخلوقات، قال الله تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ * وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ } [الأنبياء:81- 82]، وقال: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ}[النمل: 17] " أي وجمع لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير، يعني ركب فيهم في أبهة وعظمة كبيرة في الإنس وكانوا هم الذين يلونه، والجن وهم بعدهم في المنزلة، والطير ومنزلتها فوق رأسه، فإن كان حر أظلته منه بأجنحتها. وقوله: {فهم يوزعون} أي يكف أولهم على آخرهم لئلا يتقدم أحد عن منزلته التي هي مرتبة له. قال مجاهد: جعل على كل صنف وزعة يردون أولاها على أخراها لئلا يتقدموا في المسير كما يفعل الملوك اليوم"([1]).
هذا الجيش العظيم الذي تنوعت أجناسه وتباينت أصنافه، كان مع نبي الله سليمان عليه السلام لنشر الإسلام في الأرض.
وكان من جملة ذلك الجيش العظيم جندي من الطير له أهمية عظيمة ووظيفة مهمة، هذا الجندي هو الهدهد.
سبحان الله العظيم؛ كان لسليمان جنود كثر: إنس وجن وحيوانات وطيور وو ...، إلا أنهم لم يُذكر لهم من البيان في كتاب ربنا ما ذكر لهذا الطائر –الهدهد-، ولا شك أن وراء ذلك سبب عظيم أو أسباب عظيمة، استدعت أن يذكر وتبين قصته، ويكون له ذلك الخبر مع نبي الله سليمان في كتابنا الكريم.
الهدهد له خبر عظيم ونبأ يقين مع نبي الله سليمان عليه السلام، قصته ذكرت في سورة النمل، ولما لها من أهمية، وما فيها من فوائد فقد ذكرت، ولأنها آية من آيات الله سبحانه يأخذ منها المؤمنون العظات والعبر فقد بينت.
تفاصيل القصة:
لو عدنا قليلا إلى الآيات التي قبل تفقد سليمان للطير نجد أن الآيات ذكرت لنا أن جنود سليمان من جميع الأجناس كانت قد جمعت وترتبت في جيش عظيم، وهذا الجيش سائر في وجهة معينة مع نبي الله سليمان([2]).
ثم ذكر الله قصة الهدهد؛ فقال: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ}[النمل: 20]، قال الإمام البقاعي: "ولما كان التقدير: فوصل إلى المنزل الذي قصده فنزله وتفقد أحوال جنوده كما يقتضيه العناية بأمور الملك، أي تجنب فقدهم بأن تعرف من هو منهم موجود ومن هو منهم مفقود، الذي يلزمه أن لا يغيب أحد منهم: {وتفقد الطير} إذ كانت أحد أركان جنده؛ ففقد الهدهد {فقال ما لي} أي: أيّ شيء حصل لي حال كوني {لا أرى الهدهد} أي أهو حاضر، وستره عني ساتر؟ وقوله: {أم كان من الغائبين} كما أنه يدل على ما قدرته يدل على أنه فقد جماعة من الجند، فتحقق غيبتهم وشك في غيبته، وذكره له دونهم يدل على عظيم منزلة الهدهد فيما له عنده من النفع، وأن غيبة غيره كانت بأمره عليه السلام"([3]).
وقال أبو حيان الأندلسي: "الظاهر أنه تفقد جميع الطير، وذلك بحسب ما تقتضيه العناية بأمور الملك والاهتمام بالرعايا.
قيل: وكان يأتيه من كل صنف واحد، فلم ير الهدهد.
وقيل: كانت الطير تظله من الشمس، وكان الهدهد يستر مكانه الأيمن، فمسته الشمس، فنظر إلى مكان الهدهد، فلم يره.
وعن عبد الله بن سلام: أن سليمان عليه السلام نزل بمفازة لا ماء فيها، وكان الهدهد يرى ظاهر الأرض وباطنها، وكان يخبر سليمان بذلك، فكانت الجن تخرجه في ساعة، تسلخ الأرض كما تسلخ الشاة، فسأل عنه حين حلوا تلك المفازة، لاحتياجهم إلى الماء"([4]).
ثم قال الله: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ}[النمل: 21] أي بحجة تبين عذره([5]).
وهنا يأتي ذلك الجندي الذي تغيب، وفقده الأمير، وتوعده بالعقوبة على غيابه الذي كان بدون أذن مسبق، يأتي هذا الطائر الصغير إلى سيده فيروي له سبب غيابه وعذره الذي جعله يبتعد عن الجيش، يروي له قصته العجيبة التي رآها مع أولئك القوم الذين عبدوا غير الله، يروي له قصة تلك الملكة التي كانت قابعة في أرض سبأ باليمن وما لها من مملكة عظيمة وأتباع كثر، ولكنهم مع ذلك يعبدون الشمس من دون الله.
{فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ * أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}[النمل: 22-26]
الهدهد ذلك الطائر الذي تعود أن لا يرى إلا مظاهر التوحيد، والعبادة الخالصة لله، مع أميره -نبي الله سليمان عليه السلام- يستنكر ذلك الفعل من أولئك القوم، كيف لامرأة تملك أولئك، وكيف لأولئك الناس الذين خلقهم الله وأنعم عليهم بالنعم أن يعبدوا غيره ويتبعوا الشيطان؟ لماذا لا يسجدون ويخلصون في عبادتهم لله وحده؟ لماذا هذا الإعراض منهم عن خالقهم؟ ما الذي جعلهم على تلك الحالة؟
هذا هو عذر الهدهد، وهذا هو خبره الذي جاء به إلى سليمان عليه السلام، وهذا هو سبب غيابه.
ولم يتسرع سليمان في تصديقه أو تكذيبه ولا يستخفه النبأ العظيم الذي جاءه به. إنما يأخذ في تجربته، للتأكد من صحته. شأن النبي العادل والملك الحازم([6])
فأمره بأربعة أوامر:
الأول: {اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا}، الثاني: : {فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ}، الثالث: {ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ}، الرابع: {فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ}، فأخذ الهدهد كتاب نبي الله سليمان وذهب به إلى تلك الملكة – بلقيس- وأصل لها ذلك الكتاب الذي يحمل رسالة سليمان -عليه السلام- ودعوته لها ولقومها، ونفذ ما أمره به سليمان عليه السلام.
قال ابن كثير: "وذهب [أي الهدهد] إلى بلادهم فجاء إلى قصر بلقيس، إلى الخلوة التي كانت تختلي فيها بنفسها، فألقاه إليها من كوة هنالك بين يديها، ثم تولى ناحية أدباً ورياسة، فتحيرت مما رأت، وهالها ذلك، ثم عمدت إلى الكتاب فأخذته، ففتحت ختمه وقرأته، فإذا فيه: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل: 30-31]"([7]).
لقد أراد الله الهداية لتلك الملكة وقومها فسخر هذا الطائر –الهدهد- فعرف مكانهم وحالهم وما هم عليه من عبادة، ثم نقل ذلك إلى نبي الله سليمان -عليه السلام=، فأرسل إليهم كتاباً يقيم به الحجة عليهم، ويأمرهم بالمجيئ إليه، فكان نتيجة ذلك أن أتت تلك الملكة إلى سليمان -عليه السلام- ثم أسلمت وأسلم قومها لله رب العالمين.
قال ابن كثير: "لما كان الهدهد داعيا إلى الخير، وعبادة الله وحده والسجود له، نهي عن قتله، كما رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل أربع من الدواب: النملة والنحلة والهدهد والصرد. وإسناده صحيح"([8]).
كانت هذه قصة الهدهد الذي بينها الله في كتابه، ستظل ما بقي كتاب ربنا، وسيستمر القارئون لكتاب الله يأخذون من هذه القصة الدروس والعبر، والفوائد والفرائد التي تنير لهم بصائرهم وتعلمهم طرق الدعوة إلى الله.
هذا هو الهدهد الذي جعله الله آية تتلى قصته عبر الأزمان، تذكر الناس أن هذا المخلوق كان له شأنا عظيماً، وخبرا يقيناً، بسببه دخلت أمة في دين الله، وخرجت من تلك الظلمات التي كانت عليها.
اللهم اجعلنا دعاة خير لدينك، مستنيرين بنورك، مستبصرين بهديك، واجعلنا ممن يقول القول فيتبع أحسنه، والحمد لله رب العالمين.

([1]) تفسير ابن كثير (6/ 165).
([2]) المحرر الوجيز (4/ 254).
([3]) نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (14/ 149)
([4]) البحر المحيط في التفسير (8/ 223).
([5]) محاسن التأويل (7/ 490).
([6]) في ظلال القرآن (5/ 2639).
([7]) تفسير ابن كثير (6/ 188).
([8]) تفسير ابن كثير (6/ 188).

شكرا لك دكتور خليل بدووي الموقر 

موضوع رائع 

ربي يسعدك 

تحياتي