الحضارات العراقية في عصور ماقبل التاريخ

الحضارات العراقية في عصور ماقبل التاريخ
تعرض العراق في عصوره القديمة الى هجرات متتابعة جلبت اليه عدداً كبيراً من الاقوام التي شاركت في بناء ما يعرف اليوم بأسم حضارة وادي الرافدين . 

وهي حضارة أمتازت بأصالتها وبالأثر العميق الذي تركته في نشوء الحضارات العالمية ونموها . ولم يكن المؤرخون ليعرفوا عن حضارة وادي الرافدين أكثر مما ذكر عنها في بعض الكتب المقدسة وبقيت معالمها غير واضحة حتى منتصف القرن التاسع عشر حينما بدأت معاول المنقبين تحسر الرمال عن عناصرها المتمثلة في البناء والفن والادوات المنزلية والآلات التي أستخدمت في الحقول والنصوص المدونة التي تناولت مختلف نواحي الحياة .  
وطبيعي أن يبحث المؤرخون قبل كل شيء عن أصل الاقوام التي شاركت في بناء هذه المدينة وعن مواطنها الاولى التي نزحت منها . فقد كشفت المصادر المدونة التي عثر عليها المنقبون في مختلف أنحاء العراق ولاسيما القسم الجنوبي منه عن عنصرين رئيسين في البلاد عرف الاول بأسم (السومريين) والثاني بأسم (الساميين) وقد أستعمل السومريون لغة لم يستطيع المؤرخون حتى الآن تعيين علاقاتها مع اللغات الاخرى أو وضعها في عائلة من العائلات اللغوية المعروفة وكل مايقال عنها انها لغة غير سامية من نوع اللغات الملصقة التي تنتمي اليها اللغة التركية الحاضرة . أما الساميون فقد استعملوا اللغة الاكدية نسبة الى مدينة أكد عاصمة أول أمبراطورية سامية (وتسمى أحيانا اللغة البابلية نسبة الى بلاد بابل أو مدينة بابل) وهي من عائلة اللغات السامية وثيقة الصلة بالعربية والعبرية والآرامية والسريانية وغيرها من اللغات السامية الاخرى .
أي العنصرين سبق الآخر في أستيطان العراق ؟ سؤال أختلف العلماء في الأجابة عنه . فمنهم من أعتقد بأن أقدم سكان بلاد بابل كانوا من العنصر السامي ثم جاء بعدهم العنصر السومري فوجد حضارة سامية مزدهرة فتأثر بها وانعكس هذا الاثر في الآلة السومرية التي ظهرت في تماثيلها بهيئة سامية (شعر طويل ولحي كثة) بينما كان السومريون في الغالب حليقي اللحي والرؤوس . ويعتقد الآخرون _ ورأيهم هو الأرجح _ أن السومريين سبقوا الساميين الى أستيطان العراق لغلبة الطابع السومري على أكثر العناصر الحضارية القديمة ولاستعمال اللغة السومرية في أقدم النصوص التي أكتشفت في بلاد بابل . وعلى كل حال فأن العنصرين ظهرا جنبا الى جنب منذ أقدم العصور كما يستدل من أسماء السلاطين التي وردت في قوائم الملوك .
ولكن الملاحظ أن العنصر السومري كان المتغلب في القسم الجنوبي المعروف بأسم (سومر) بينما كان العنصر السامي متغلبا في القسم الشمالي المعروف بأسم (أكد) ولابد من الأشارة هنا الى أحتمال وجود أقوام أخرى سبقت كلاً من السومريين والساميين الا أننا لانعرف عنهم شيئاً في الوقت الحاضر .
ويختلف المؤرخون في الموطن الاصلي الذي هاجر منه السومريون الى العراق فمنهم من يجعله في الجهات الشمالية الشرقية في منطقة قريبة من الحدود الايرانية التركستانية حيث عثر المنقبون على آثار ذات ذات طابع سومري ويرى أصحاب هذا الرأي ان السومريين دخلوا بلاد بابل من الجهة الشمالية لان آثاراً سومرية أكتشفت في الطبقات السفلى من مدينة أشور مما يدل على مرور السومريين بهذه المدينة قبل أستيطانهم جنوب العراق .
ويرى قسم آخر من المؤرخين أنهم دخلوا بلاد سومر من الجهات الجنوبية سالكين طريق البحر مستدلين على رأيهم هذا بالأدب السومري الملىء بالاشارات الى البحر وأبطال البحر والى مناطق تقع على الخليج الفارسي مثل دلمون 

(البحرين) وأذا صح هذا الرأي فأنه ليس من المستبعد أن تكون للسومريين علاقة بسكان الهند القدماء الذين كانوا على أتصال دائم بالعراق أما عن طريق البحر أو عن طريق جنوب أيران .
أن التنقيبات الواسعة التي أجريت في مختلف أنحاء العراق كشفت عن عصور حضارية متتابعة أتفق علماء الآثار في مؤتمر عقد عام 1930في مدينة (ليدن) على تسميتها بأسماء المواقع الحديثة التي أكتشفت فيها آثار كل حضارة لأول مرة فأطلق على أقدم هذه الحضارات في القسم الجنوبي من العراق أسم حضارة العبيد نسبة الى تل العبيد بالقرب من موقع اور حيث عثر على بقايا أقدم الاكواخ التي بناها الانسان في هذا العهد . وعثر على أوان فخارية أمتازت بلونها الاخضر الغامق وزين عدد منها بأشكال هندسية متنوعة وصور حيوانات مختلفة .

 وهناك أدلة تشير الى معرفة السكان لمعدن النحاس ولكن أستعماله كان محدود جداً وأغلب الظن يعود الى نهاية هذا العصر . ووصلنا من هذا العصر عدد كبير من المناجل المصنوعة من الطين المحروق الى درجة التصلب ويدل أنتشارها على تعاطي السكان الزراعة على مقياس واسع في هذه الفترة الموغلة في القدم .   
ولايستبعد أن يكون لسكان عصر العبيد بعض الأفكار والمعتقدات الدينية لان عدداً من المباني التي ترجع الى هذا العصر يدل مظهرها على أنها كانت محلات للعبادة مما حدا بالمنقبين لان يطلقوا على كل منها أسم معبد كما أكتشفت تماثيل طينية صغيرة على هيئة امرأة تحمل طفلها الى صدرها أعتقد أكثر العلماء أنها ترمز الى الأرض (الآلهة الام) مصدر البركة وكل الخيرات .
لقد نزح سكان عصر العبيد الى العراق من الجهات الشرقية وأنتشروا على مساحات شاسعة في جنوب العراق وشماله كما يستدل من آثارهم التي أكتشفت في مواقع عديدة بجنوب العراق وفي التلول الواقعة في منطقة الموصل . ويستنتج من أكتشاف آثار عصر العبيد في منطقة (الخابور) و (البالخ) أن حضارة العبيد أمتدت نحو الغرب الى البلاد السورية ولا يمكننا تحديد تأريخ هذا العصر بالضبط ويضعهُ علماء التنقيب في الألف الخامس قبل الميلاد .
لقد اطلق على الذي تلى عصر العبيد أسم عصر الوركاء نسبة الى مدينة الوركاء (القريبة من مدينة السماوة) ويعتبر هذا العهد من ألمع العصور القديمة من حيث الابداع والأنتاج فقد ظهرت فيه لأول مرة الابنية التذكارية الفخمة التي تدلُ على مبلغ التطور الذي حدث في فن البناء وشيدت المعابد على منصات أصطناعية تطورت فيما بعد الى مايعرف بأسم الزقورات . أما فخارهم فقد تميز بلونهُ الاحمر أو الرمادي وسطحهُ المصقول ودقة صنعهُ . على أن اعظم ماقدمهُ هذا العهد الى العالم هو الكتابة التي أخترعت في منتصفهُ الثاني . ويعتقد المؤرخون أن الحاجة الملحة الى تنظيم الحياة الاقتصادية التي بدأت تتعقد يوماً بعد يوم دفعت رجال المعابد الى أختراع طريقة للتدوين كانت في بدايتها بسيطة ثم أصبحت صورية ولما كانت الكتابة الصورية لا تساعد تدوين الأفكار والمعاني المجردة تطورت الى كتابة رمزية ثم الى مقطعية صوتية حيث أصبحت الصور تستخدم لغرض أصواتها وليس لما تدل عليه من أشياء مادية . وتعرف اليوم الكتابة العراقية القديمة بأسم (الخط المسماري) وذلك لأن علاماتها تنتهى  بمثلثات تشبهُ رؤوس المسامير . ومما تجدر ملاحظتهُ أن الكتابة المسمارية في العراق لم تصل الى الطور الهجائي . وظهر في عصر الوركاء نوع جديد من الأختام التي كانت على هيئة الاسطوانة فعرفت بأسم الاختام الاسطوانية وقد أصبحت هذهِ الاختام من مميزات الحضارة البابلية القديمة الى درجة أن وجودها في بلد مايدل دلالة أكيدة على أتصال ذلك البلاد ببلاد بابل . وللأختام الاسطوانية أهمية خاصة في تتبع تطور الفن العراقي القديم وذلك لأنها كانت تزين بأشكال هندسية وحيوانية ومناظر طبيعية أو بمناظر تحتل بعض الطقوس الدينية وكان كل ذلك يختلف من عصر الى آخر بحيث أصبح من الممكن تحديد الفترة التي ظهرت فيها عن طريق دراسة هذهِ النقوش .
ويعتقد المؤرخون أن سكان عصر الوركاء نزحوا الى بلاد العراق من الجهات الشمالية (بلاد الأناضول) حيث عثر هناك على فخار يشبهُ فخار هذهِ الحضارة الذي أكتشف في المواقع العراقية .
وهناك حضارة ثالثة ظهرت في العصر المعروف بأسم عصر جمدة نصر نسبة الى الموقع الذي أكتشفت فيه آثار هذهِ الحضارة لأول مرة ومما يقال في هذا العصر أنهُ شهد تطوراً مهماً في جميع العناصر الحضارية . وقبل أن تنتقل الى عصر فجر السلالات نرى من المستحسن أن نشير النظرة الجديدة التي حدثت في تقسيم عصور ماقبل التأريخ حيث دفعت الدراسات الحديثة قسماً من المؤرخين الى أعتبار عصر جمدة نصر أمتدادا للنصف الثاني في عصر الوركاء وأعتبرت الفترتان (النصف الثاني من عصر الوركاء وعصر جمدة نصر) فترة واحدة أطلق عليها أسم العصر الشبيه بالكتابي ويرى بعض المؤرخين أن العصر الشبيه بالكتابي كان من أهم العصور التي مرت ببلاد سومر وأكد من حيث كونهُ العصر الذي تبلورت فيه المدينة العراقية وأخذت طابعها النهائي الذي تميزت بهِ في العصور التالية سواء أكان ذلك في المجال الاقتصادي أو السياسي أو الفلسفي .