كان الشيخ الزركشي عالماً من علماء العربية في القرن التاسع الهجري، وقد نظر الى الحروف نظرة متعمقة متشعبة، قال في بحثه المسمى «البحث عن معاني الحروف»: إن هذه الحروف تتوزع في الكلام على حسب مواقعها، فهي ترجح استعمال بعض الحروف في مواضع دون مواضع اخرى لان مقتضى المعاني واثر الحرف في المعاني يتطلب ذلك، ولذلك تناول في سورة الكهف الفاء والواو، قال الزركشي يقول سبحانه «فابعثوا أحدكم بورقكم هذه الى المدينة، فلينظر أيها أزكى طعاماً فليأتكم برزق منه وليتلطف ولا يشعرنّ بكم أحداً»، الفاء جاءت ثلاث مرات، ثم جاءت الواو، لماذا؟ الترتيب كان مطلوباً أولاً، ولكن التلطف والتخفي وعدم إشعار احد بوجودهم في الكهف فهي توصيات، خرجت عن معنى ترتيب الاشياء من ذهاب احدهم الى السوق فشراؤه طعاماً زاكياً فالإتيان به، خرجت الى معنى التوصية، والتوصية هنا التلطف لان دينهم يأمرهم بالتلطّف، ثم إن وضعهم الحالي يوجب عليهم إخفاء أنفسهم ولذلك استعملت الحروف حتى يؤدي كل حرف المعنى الذي يقتضيه الحال والمعنى. دع سورة الكهف الى سورة التوبة، فانك تجد سورة التوبة تعالج موضوعاً عملياً مهماً دائماً في أوساط الناس، إن آية الزكاة تمثل ركناً من أركان الاسلام العظيمة لانها تقوم على مبدأ اجتماعي يصلح من شؤون الناس المالية، وقد ورد فيه حرفان مهمان جداً يتعلقان بصرف الأموال على الأبواب الثمانية، وكل حرف منهما يحدد الأولوية في العطاء، الحرف الأول هو (اللام)، والحرف الثاني هو (في)، وهذه الآية هي قوله تعالى «إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل» فحرف اللام يعني الملكية أي أن تملك شيئاً، فكأن الفقراء والمساكين والعاملين والمؤلفين هم أصحاب هذا المال، لماذا؟ لأن الأربعة موجودون في المجتمع وفي كل مجتمع دائماً، وأما الأربعة الآخرون وهم: وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل، فهؤلاء لا يتواجدون دائماً، ولكن إن وجدوا فهم الأَوْلى بالعطاء، ولذلك عَدَلَ عن اللام الى الحرف (في) لأن حرف (في) للوعاء فنبه عليهم باستعمال (في)، أي ضعوا الشيء في وعائه ايها المتصدقون، وانظر الى تكرير حرف (في) مع عبارة سبيل الله، فهذا السبيل وعاء المال الأول لأن كلمة (في) دخلت معه للترجيح، فان سبيل الله أهم من الرقاب وأهم من الغارمين، وقد أعجبني قول أبي علي الفارسي: «وفي الرقاب دليل على أن العبد لا يملك»، تلك هي اللغة العربية الشريفة التي نزل القرآن بها، والله أعلم حيث يجعل رسالته.
الخميس أبريل 11, 2024 10:27 pm
