لا شيء يحرق كالبرد
اشتد البرد هذه الأيام فجأر الناس بالشكوى، وأعلن بعضهم اعتزال حمام الصباح إلى حين إشعار آخر، وكثرت الأسئلة عن جواز التييم لصلاة الفجر مع وجود الماء، هذا مع أن أدنى درجة حرارة سجلت كانت 9 مئوية، وهي تعتبر عند بعض الدول درجة مثلى تمتلئ فيها الطرقات بالمارة، وتضج فيها البيوت بالحركة، وينشط فيها الناس، فسبحان من خلق فسوى وقدر فهدى.
أذكر مرة في إسلام أباد حيت تصل درجة الحرارة أحيانا إلى الصفر المئوي أن قال لي أحد الطلاب الأفارقة الذين يدرسون بالجامعة الإسلامية هناك: قال لي: كان جدي يستعيذ بالله من البرد الحارق، وكنت أتعجب كيف يكون البرد حارقا، فأنا من منطقة استوائية لا تعرف شيئا يحرق غير النار، ولكني عندما أتيت هنا فهمت دعاء جدي، قلت له: لعل جدك قد عاش في بلد بارد حيث رأى حريق البرد رأي العين، فقديما قال الكاتب الأمريكي جورج مارتن (لا شيء يحرق كالبرد)، واقتبست الأديبة البريطانية كارول مورتيمر هذا المعنى في عنوان روايتها الشهيرة (الثلج يحرق أحيانا)، فمن خبر البرد عرف حريقه؛ أو لعل جدك من المتفقهين في الدين، العالمين بحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم الوارد في الصحيحين: (اشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب أكل بعضي بعضا فنفسني، فأذن لها في نفسين: نفس في الشتاء، ونفس في الصيف فأشد ما تجدون من الحر من سمومها, وأشد ما تجدون من البرد من زمهريرها)، فالبرد الشديد من نفس جهنم، وهو عذاب لأهل النار، يحرقون به كما يحرقون بالنار.
مضت عقود على ذلك الكلام، وجدت بعدها نقولا كثيرة في ذلك المعنى منها: ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه : " يستغيث أهل النار من الحر فيغاثون بريح باردة يصدع العظام بردها فيسألون الحر ويستغيثوا بحر جهنم، ومنها قول مجاهد: (إن في النار لزمهريراً يقيلون فيه، يهربون إلى ذلك الزمهرير فإذا وقعوا حطم عظامهم حتى يسمع لها نقيض) ، ومنها قول عبد الملك بن عمير: (بلغني أن أهل النار سألوا خازنها أن يخرجهم إلى حَبَّانها؛ فأخرجهم فقتلهم البرد حتى رجعوا إليها فدخلوها مما وجدوا من البرد)، وقول كعب رضي الله عنه: (إن في جهنم برداً هو الزمهرير يسقط اللحم حتى يستغيثوا بحر جهنم).
فالحر والبرد كلاهما من جنود الله يرحم بهما من يشاء، ويعذب من يشاء. وهما كذلك تذكرة لمن أراد أن يتذكر ( وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا) فتعاقب الليل والنهار يفضي الى الصيف والشتاء. وتقلب الأيام والأحوال يستثير الخواطر ويدعو إلى التفكر، ويذكر بالله ... كما قال شيخنا د. الحبر يوسف:
مر العشيّ وكرة الإصباح ** أودى برونق عيشنا ياصاح
ذهبت بشاشة لذة مسحورة ** والزهر صوّح أيما تصواح
خمسون أنهكت القوى وتصرمت ** لم تبق غير تعلق بصلاح.
فلا شيء يبقى على حاله، والتقلب والتحول من سنن الله في الخلق والسعيد من يبقى مستقيما على دين الله، صلبا في الحق، قال الشاعر:
فإن تكن الأيام فينا تبدلت ** ببؤسي و نعمى و الحوادث تفعل
فما لينت منا قناة صليبة** ولا ذللتنا للتي ليس تجمل
والسعيد من يوظف هذه التقلبات إلى صالحه، ويرحب بالبرد مثل الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود الذي رُوي أنه قال: (مرحبا بالشتاء تنزل فيه البركة ويطول فيه الليل للقيام ويقصر فيه النهار للصيام)
الخميس أبريل 11, 2024 10:27 pm
