كتب الاستاذ/ جمال سلطان
اختتمت القمة العربية الخامسة والعشرون أعمالها بالكويت اليوم بالبيان الختامي ، وبعد أجواء شديدة التوتر سبقت القمة بين أكثر من عاصمة عربية وأخرى ، وهي التوترات التي جعلت الكثيرين يحبسون أنفاسهم عما يمكن أن يجري في تلك القمة من وقائع ساخنة قد تكون صادمة ، غير أن الديبلوماسية الكويتية الهادئة والصبورة والمتمسكة دائما بالحفاظ على مسافة كافية من بؤر التوتر ، نجحت في أن تمضي بأعمال القمة إلى نهايتها بصورة جيدة للغاية ، ونجحت في استيعاب الخلافات الشديدة ، كما بدا حرص أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد على أن يحقق باللقاءات الجانبية والشخصية ما لا يمكن تحقيقه في القرارات والمواقف الرسمية ، فظهرت صورته وهو يجمع بين كل من الأمير سلمان بن عبد العزيز ولي عهد السعودية وممثلها في القمة والأمير تميم بن حمد أمير قطر في جو من الود الواضح ، وهو ما اعتبرته أوساط عديدة حضرت القمة مؤشرا على استيعاب الدولتين الجارتين للخلاف الذي تفجر مؤخرا وأدى إلى سحب السفراء ، والحقيقة أن نجاح القمة
وعبورها لتلك الأزمات العنيفة يجعل من الكويت هي الرابح الأول والأهم في هذه القمة ، لأن انعقاد القمة واستضافتها واستيعاب كل تفاصيلها وفخاخها وهمومها ومشكلاتها هي مسؤوليتها كالدولة المستضيفة بالدرجة الأولى ، أيضا يمكن القول بأن دولة قطر كانت الرابح الثاني من هذه القمة ، لأن كثيرين راهنوا على أنها "دولة معزولة" وأن القمة العربية ستثبت عزلتها ، وتم تصوير الخلاف السعودي معها بأكثر من حجمه كثيرا ، دون إدراك لطبيعة الشخصية العربية في الخليج والنسيج الاجتماعي الذي يحفظ الخلافات عادة في سقف محدد وعائلي يسهل استيعابه ولا يقطع خطوط الرجعة ، لأن الشعور بإحساس الأسرة الواحدة يغلب على العلاقات الخليجية الخليجية ، وبدت كلمة أمير قطر متجاهلة تماما الضغوط التي حاولت ممارستها بعض الدول من أجل أن تغير موقفها من الخريطة السياسية العربية بعد الربيع العربي ، فبدت الكلمة منحازة تماما للربيع العربي وثورات شعوبه وكانت الكلمة أقرب إلى مخاطبة الشعوب منها لنظم الحكم وأكد على ضرورة بناء التوافق الوطني بالحوار في الدول العربية التي تشهد انقسامات وصراعات عنيفة ، ملمحا لمصر ، وأن خير الحكام من يحبهم شعبهم ويحبون شعبهم ، كما أتت كلمة السعودية لتكون متطابقة بدرجة كبيرة مع ما طرحته قطر في كلمتها في أكثر من ملف ، مما أظهر قربا في مواقف الدولتين أكثر مما كان يتصور أحد ، وبدا أن الحديث عن عزلة قطر
محض هراء سوقته دعاية إماراتية مراهقة وصدقها مع الأسف الإعلام المصري المخترق على نطاق واسع من الدوائر الإماراتية .
يمكن القول أيضا بأن السعودية ربحت حضورا قويا في هذه القمة ، وخاصة تأثير كلمة الأمير سلمان على توجهاتها فيما يخص الملف السوري ، وبعد أن عنف الجامعة العربية وأحرج أمينها العام نبيل العربي الذي تلكأ في منح ائتلاف المعارضة السورية مقعد بلاده في الجامعة رغم وجود قرار سابق للقمة العربية بهذا ، اضطر العربي إلى الانصياع وتشكلت لجنة مصغرة انتهت إلى منح مقعد سوريا لائتلاف المعارضة بشكل استثنائي ، وحضورها القمة المقبلة في القاهرة ممثلة للدولة السورية وعلى مقعدها ، وهذا نصر كبير حققته المعارضة السورية ـ وهي من الرابحين في القمة خاصة بعد تأكيد البيان الختامي على أن الائتلاف هو الممثل الشرعي الوحيد لسوريا ـ وهو نصر حققته أيضا المملكة العربية السعودية ، كما أتى البيان الختامي متضمنا الكثير مما طالبت به المملكة فأدانت القتل الجماعي الذي يمارسه النظام السوري ، والحقيقة أن منح مقعد سوريا للائتلاف ـ الذي مرره العربي كمن يبتلع الزلط ـ يمثل هزيمة نكراء للخارجية المصرية والجزائرية بشكل أساس وللنظام الطائفي في العراق ، لأن هذا المثلث هو الذي كان يتخذ موقفا ممالئلا لنظام بشار الدموي ومعطلا لمنح مقعد سوريا لائتلاف المعارضة ، على خلفية طائفية كما هو حال العراق وعلى خلفية تحالف الجنرالات والخوف من نجاح فكرة هزيمة جيش بشار بالقوة المسلحة للثورة كما هو الحال في موقف مصر والجزائر ، وأرجو أن تكون مصر قد اكتشفت أن "الإمارات" باعت لها الوهم ، وتسببت في تهميش دورها في القمة ، حتى بدا عدلي منصور وحضوره في مستوى ممثل جيبوتي وجزر القمر ، مع كامل الاحترام للدولتين الشقيقتين .
بجوار الخسارة المصرية والعراقية والجزائرية ، الخاسر الأكبر في تلك القمة هي الإمارات ، قولا واحدا ، وكانت الديبلوماسية الإماراتية تدرك ذلك مبكرا وقبيل الانعقاد بأيام قليلة ، فقررت المقاطعة أو المشاركة الرمزية ، لأنها أدركت فشلها في تفخيخ علاقة قطر ـ خصمها اللدود ـ مع الشقيقة الأكبر "السعودية" ، ونجحت الكويت ـ مستضيفة القمة ـ في تلطيف الأجواء بين الدوحة والرياض وتقريب وجهات النظر ومنعت ما كان يتمناه آخرون من تصعيد الصدام في القمة ، كما رفضت القمة أن يدرج عليها أي ملفات تتصل بوجهات نظر خاصة ـ تروج لها الإمارات ـ على خلفية صراعات سياسية داخلية في ما يتعلق بموضوع "الإرهاب" ووصم جماعات بعينها به ، وخرج البيان الختامي بموقف عام ولافتات عريضة تشجب الإرهاب أيا كان مصدره أو مبرره ، ووضح الإحساس بالفراغ الشديد على كلمة مصر التي ألقاها "المؤقت" عدلي منصور ، فراح يتكلم عن الحاجة إلى مشروع محو الأمية والتنوير الفكري ومحاربة التطرف ، وهي خطب إنشائية خارج سياق الحدث والتاريخ ، وتحولت دعوته في كلمته إلى فك الحصار عن الشعب الفلسطيني في قطاع غزة ، تحولت إلى نكتة على صفحات التواصل الاجتماعي ، لأنه هو نفسه من يفرض الحصار على غزة ، بجانب إسرائيل طبعا .
نجاح القمة العربية مهم ، ولا ينبغي الاستخفاف بهذا الحدث رغم تواضع النتائج التي تتمخض عنه ، كما لا يصح الاستخفاف بالجامعة ذاتها كمكتسب أممي عربي يمثل مرجعية تعزز حقيقة ارتباط هذه المساحة الجغرافية والسكانية الضخمة بهوية واحدة ومصير واحد ، فتلك رابطة تاريخية شديدة الأهمية والخطورة ، وينبغي الحفاظ عليها وحمايتها والعمل على تطويرها والضغط عليها للارتقاء ولتكون عند مستوى الحدث ، ولا ينبغي أن يدفعنا تواضع نتائجها إلى العمل على هدمها ، لأن جزءا كبيرا من سبب ضعفها يعود إلى طبيعة كثير من الأنظمة العربية الحاكمة وليس إلى فكرة الجامعة في حد ذاتها .
مما راق لى
الخميس أبريل 11, 2024 10:27 pm
