منتديات اشتياق أسسها الراحل مصطفى الشبوط في يوم الجمعة30نوفمبرعام2007

تجمع انساني،اسلامي،ثقافي،ادبي،اجتماعي،تقني،رياضي،فني وترفيهي عام
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

آخر المواضيع
الموضوع
تاريخ إرسال المشاركة
بواسطة
رباعيات في حبك
عبق ذكراك بقلمي مونتاجي والقائي الصوتي
عبارات عن القرآن في رمضان
في انتظار الزائر الكريم محمد محضار
من أي أنواع العبادة تعتبر قراءة القران
ما أبرز الفوائد من “ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله”
كيف بين النبي امور الدين من خلال حديث جبريل المشهور
أحاديث عن الصبر والحلم والعفو والوفاء بالعهد
أقوال خلدها التاريخ عن الوفاء
الجمعة نوفمبر 01, 2024 8:20 am
الجمعة نوفمبر 01, 2024 8:01 am
الجمعة مارس 01, 2024 10:21 pm
الجمعة يوليو 14, 2023 12:05 am
الخميس أبريل 27, 2023 10:40 pm
الخميس أبريل 27, 2023 10:37 pm
الخميس أبريل 27, 2023 10:33 pm
الخميس أبريل 27, 2023 10:30 pm
الخميس أبريل 27, 2023 10:28 pm










شاطر
 

 فدوى طوقان ورسالة "اللحن الأخير"..

استعرض الموضوع التالي استعرض الموضوع السابق اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
نوره الدوسري
نائبة المدير العام سابقا
اديبة وقاصة سعودية - مهرة اشتياق

نوره الدوسري

انثى
تاريخ التسجيل : 18/01/2010
عدد المشاركات : 8809
نقاط التقييم : 15343
علم بلدك : Saudi السعودية

فدوى طوقان ورسالة "اللحن الأخير"..  Empty
مُساهمةموضوع: فدوى طوقان ورسالة "اللحن الأخير"..    فدوى طوقان ورسالة "اللحن الأخير"..  Emptyالخميس سبتمبر 12, 2013 12:50 am


فدوى طوقان ورسالة "اللحن الأخير"..



في الخطاب العربي السائد، يتردد، أحياناً، قول من نوع: "وأخيراً لا آخراً"، وهو شكل من مماطلة الكلام تجاه الموضوع. من حيث كونه تعبيراً عن قطوف النهايات، مع وعد بأن آخر كلمة لم تقل بعد. وهذا يعني أن الحوار مستمر، ونهر الحياة متصل..
كانت شمس هذا اليقين تلزمنا، لنجرّ لحظة التفاؤل إلى منطقة الضوء، وعندما وقفنا، بين الدهشة والغبطة، أمام شاعرتنا الكبيرة فدوى طوقان، وهي تتحدى رهاب الزمن وقد تشبث بها الشعر، فتقدم "اللحن الأخير" في العام الألفين، لتكون تلك مجموعتها الثامنة بعد "وحدي مع الأيام ـ وجدتها ـ أعطنا حباً ـ أمام الباب المغلق ـ الليل والفرسان ـ على قمة الدنيا وحيداً ـ تموز والشيء الآخر".. وعلى هذا فإن مجموعة "اللحن الأخير" تؤخذ بوصفها حركة في إيقاع متصل نابض بالألم والفقد والعناد والاكتشاف. وتمدنا المصادفة الزمنية ببعد رمزي، عندما نصحح خطأ شائعاً حول العام الألفين، فهو آخر القرن العشرين وليس بداية الألفية الثالثة، وعلى هذا فإن "اللحن الأخير" هو خلاصة لتصفية حساب مع قرن من الزمن، إيذاناً باستقبال عصر جديد.

ومما له دلالة أن آخر مجموعات الشاعرة في أعمالها المنجزة، هي "تموز والشيء الآخر"، وتموز هو المنتصر على الموت، بما هو رمز للقيامة واستئناف الحياة. وتؤكد فدوى طوقان هذا المعنى، موضوعياً، وربما من حيث لا تدري، في حديثها المثير المدوي ـ في رأيي ـ الذي أدلت به لمجلة الوسط ـ العدد الصادر في 17/9/2000 كاشفة عن أن "اللحن الأخير" خلاصة تجربة حب عاشتها وهي في هذا العمر مع رجل أحب عينيها وأحبت روحه. فهذه الفراشة المهددة بلهب الشرق المميت منذ عقابيل الحرب العالمية الأولى، ظلت روحها الفولاذية قادرة على الصمود، والانتقال من موقع إلى موقع في معركة الحياة. إنها هي هي الفتاة التي أنشدت قبل زهاء نصف قرن "ألف انفعال ألف عاطفة ـ محمومة بدمي بأعراقي ـ ماذا أحس؟ أحس بي لهفاً ـ حيران يغمر كل آفاقي" وها هي، أميرة الشعر التي تقول هذه الأيام: "مازلت أحاور مالم يوجد ـ كي أعطيه وجود"، لا بمعنى أنها تراوح في المكان، بل على النقيض، إنها تتقدم وتسأل وتتحقق، لكن الزمن المكسور هو الذي لم يتقدم في شرقنا ووطننا إلا قليلاً.

لقد غيرت مجموعة "اللحن الأخير" خطتي الطموح. فقد كنت ـ بعد قصيدة بانورامية كتبتها من وحي تجربتها وأهديتها إياها ـ أفكر في إعادة قراءة مشروعها الشعري كله. وكانت الشاعرة الكبيرة قد طوقت عنقي بحوار أجراه معها الكاتب المصري طلعت شاهين لجريدة أخبار الأدب" قالت فيه إن ما كتبته عن شعرها هو الأهم، على كثرة الدراسات والرسائل الأكاديمية المكتوبة في شعرها.
لكن "اللحن الأخير"، مع التصريح الأخير بقصة الحب الأخيرة، أملى حضوره الطاغي، فكان لا بد من هذه الوقفة المسترسلة. فما الذي أرادت فدوى طوقان أن توصله إلينا، قبل ورقة النعي التي لم تستطع ست وثمانون سنة من منعها عن أن تكون مباغتة لنا جميعاً؟
صداقــة الحياة
علينا أن نأخذ تصريح فدوى طوقان بالحب الأخير، على محمل الرمز لا المجاز. هو رمز لأن قوة الحياة لا تعترف بوطأة الزمن. والحب علامة قوة، بل إنه لحظة مصالحة مع الحياة وإنشاء صداقة معها بعد طول نبذ وصراع ومعاناة:

وعلمتني كيف تصبح دنيا المحال
البعيد المنال حقيقة
فتغدو الحياة صديقة

وهو ليس مجازاً مادام الواقع قادراً على أن يمدنا بالرموز من صميم حياتنا اليومية. فنحن البشر، نولد ونكبر ونحب ونتألم، ننكسر وننتصر، فلكل منا قصته، ولكن ذهاب هذه القصة إلى لحظة الإبداع، يعني الارتفاع بها من الشأن الشخصي إلى الرمز العام. ودور الشعر، في أحد مستوياته، هو الحفاظ على سهم الخلق الصاعد من الذات إلى الآخر. فالحب حالة خاصة بين حبيبين، لكن عندما يكون أحدهما مبدعاً، فإنه، من خلال منطوقه الإبداعي، يتحول إلى ناطق باسم المحبين الذين على شاكلته في العالم. ولقد كانت شاعرتنا تصدر عن هذا المنطق من غير مواربة، فتؤكد "أنت المعنى، أنت الرمز" وعلى هذا فإن الحب "يسع الأرض وأطباق السما"، بل أن هذا الحب أصبح ترسيخاً لوجود الذات المحبة المبدعة "تأكيداً لوجودي ظل صديق العمر ونبض العمر". لكن هذه المعاني المتسامية للحب لا تخرجه من سيرورة الحياة إلى المجاز المقارب للأفكار والأحلام والأمنيات، بل إنها تتكثف وتتجسد في مشهد عياني. هكذا لن تهرب الشاعرة إلى النفاق الاجتماعي فتدعي أن قصيدتها في الحب تنهل من لحظة أمان معترف بها، بل تصدع بحق الحب على الصدق: "تحكي في همس عن حب، هو أغرب حب ـ حب الأخت أخاها ـ حب الأم لواحدها ـ حب صديق لصديق ـ يا سيد قلبي هذا حبي الطاهر لكن ـ في قلبي شيء آخر ـ يختبئ وراء الصمت" وإذا كانت لا تأبه بالضاغط الظلامي الذي يسفه الفرح، ويعترض على صداقة الحياة، فإنها ليست ملزمة بكشف أكثر مما تريد. إن من حق "الشيء الآخر" أن يظل محتجباً في صمتها الحميم. وهذا ليس جديداً عليها. ألم تؤكد لحبيبها قبل خمس وأربعين سنة في "القصيدة الأولى" من مجموعة "أعطنا حباً":

لا لا تسلني، لن أبوح به سيظل حبك سر أسراري

على أن السرّ المكنون لا يلبس قناع المسكوت عنه. فهي تعتصم بالصمت لا خوفاً ولا حذراً، بل لأن الصمت مملكتها الجوانية المقدسة. وإذا كان من بوح فمن خلال الفرح أو الأسى اللذين يتوهجان في الملامح، وينقلان رسالة المشاعر الذاتية إلى الملأ الموضوعي:

.. كيف عبرت حقول الصقيع
بهذا التوهج ، هذا السطوع البديع؟

ولأن هذا التوهج منوط بالذات، فقد يومض وينطفئ، يقول ولا يقول، لكنه ينطوي على المعنى الجميل. معنى أن نحب فنكون أكثر ألفة مع الوجود، وأكثر صداقة للحياة حيث "طفل الحب يمضي سادراً في غيه لا ينثني عن عنفوانه".. وأي عنفوان! إنه القلب الأخضر المعافى شاباً في ريعان ما بعد السبعين.

التقاط الفرصــة
ولأنه حب حقيقي، لا مجازي، فهو يتعرض كأي حب، للعواصف والصدمات، و يتطلب استحقاقات الأرق والحيرة والألم: "النوم عصي ـ والليل تطول مسافته ـ والصمت رفيق". ويأخذ الحب معادله الموضوعي من البحر، هذا الشاسع الذي ضاق بما رحب "ويا بحر فات أوان اتساعك" لأن الحب يقلص المسافات زماناً ومكاناً فيكون البحر هو "اللازمان" أما ماؤه فهو ملح الموت. لكن هذا ليس إلا أحد وجوه البحر بما هو معادل للحب. لأن ثمة وجوهاً تسفر عن الصخب والسكينة، بل عن المتناقضات جميعاً:

وأنت التوتر، أنت التمزق
أنت اختلاط العقول
وأنت الصراع وأنت الضياع

وحين تعبر الشاعرة عن خوفها من هذا المجهول "القوي العتي" المفعم باللا أمان واللا نهاية يهدهدها البحر ـ أو الحب ـ فهو "عبقر الشعراء، مبدع المعجزات" بل إنه يوشي نسيج الوجود بدر المحار وبمرجان القلب ومذاب اللازورد. البحر هو الماء، وجعلنا من الماء كل شيء حي، والماء ميعاد وردة الروح مع الحياة "أنا الماء محيي الموات" وإذ تطمئن الشاعرة لهذا المدى المائي، تستسلم لقوة جاذبيته. فالبحر، كالحب، شيء كالقدر:

وأدخل في جسد الماء،
يا قوة الجذب أنت
فلبيك لبيك

وهي لا تكتفي بالذهاب إلى هذا البحر اختياراً نهائياً. بل تمنحه الصفة التي يستحق: أنه سيد الأرض. وأن يكون البحر معادلاً موضوعياً للحب، يعني أن الطبيعة شريكة في اختلاجات القلب واختلاط المشاعر. لقد كان البحر مفتاح الربيع، ولكن للشتاء دورته أيضاً" وأقبل ديسمبر الجهم نحوي يحث خطاه ـ يلفع بالثلج جسم المساء الكئيب". فمادام الحب بحراً، فهو مد وجزر. وينسحب هذان النقيضان على قوانين الطبيعة كلها بحيث يغدو القمر "على طرف الكون يزحف واهي الخطى نحو كهف المغيب". هكذا تأخذ مانوية الحياة بعديها المتضادين من نواميس الوجود. فإذا كان ربيع، فإن ثمة شتاء "وريح الشتاء تعري الوجود ـ وتفرغه من هبات الحياة" لكن المحبة لا تستسلم. فهي الوردة المعجزة القادرة على استحضار بشاشة الربيع، بل وتغيير منطق دورة السنة:

وغيرت طقس الفصول
ولامست معجزة الخلق والمدهش المستحيل

وتحتفل اللغة في شفتيها ومع مداد قلمها فثمة انتشاء وارتواء وجمال وثراء وكل ينابيع هذا الفرح، وكل ابتسامات قوس قزح. فالشاعرة التي تدرك محدودية الحياة، تدرك أيضاً أننا نستطيع أن نوسع هذه الحياة، وأن نجعلها أكثر جمالاً، بالتقاط الفرصة حيث يغرق هذا العالم في الموسيقى ونغني أصفى أشعار الحب المتوهج: "ما أحلى الحب وما أبهاه ـ يحيا بين يديه رميم".
الصمت والصــوت
تبدو حاسة السمع، التي لا بد وأن نشفعها بما يمكن أن نسميه السمع الحدسي، وكأنها بوابة الشاعرة لولوج العالم. وقد يصعب إحصاء المرات التي تتواتر فيها كلمتا الصمت والصوت. فالصوت هو رائحة الحبيب، وهو أيضاً أفق الخيال:

ما الذي يجعل من صوتك أفقاً
خارج الأرض إذا ارتاد
فضاءات القصيدة

وللصوت أيضاً بعده غير المحسوس، هذا الذي يلتقط سمع الشاعرة حدساً وتخميناً: "إنك إيقاع حياتي ـ والنغم الأحلى في عمري" ومادام كذلك، فإن لصوت الحبيب مستوى ميتافيزيقياً لا نعرف من أين تستقبله هذه المحبة السعيدة: "يأتيني صوتك من أقصى أقصى الدنيا" وليس هذا الصوت الحبيب آمراً ناهياً يترك الشاعرة في موقع المتلقي السلبي، فهي تتلقف هذا الصوت لتصبح إنسانة مختلفة بحس مختلف ورؤيا قادرة على الكشف وصولاً إلى لحظة الإبداع. إن صوت الحبيب "يعمق فيّ الحس ـ يوسع فيّ مجالات الرؤيا ـ يفتح لي آفاق الكشف ـ يشرع لي أبواب الشعر"، وعلى هذا فإن الصوت هو معراج باهر الضوء، يتحول إلى فرح دائم "يحتضن القلب كما فرح البنت بثوب العيد". وإذا كان شعر فدوى يرفل بالضوء عرساً بصرياً، والزهر فاكهة الرائحة، والنكهة طعماً وذوقاً، فإن الصوت يبقى الأهم. لأنه وسيلة عناق الروحين والعقلين معاً. والشاعرة لا تفسر الظاهرة، بل بها تحتفل، وفي فمها سؤال معروف الجواب:

ما الذي يجعل من صوتك نهرين
يفيضان بأعماقي حنيناً وشجن

والحنين يصلها بالماضي. أما الشجن فهو اللاحم بين الماضي و الحاضر. وحين نتذكر، في شعر فدوى أن الصوت يأتي من الأقاصي البعيدة، فهو أيضاً رباط المستقبل. وبهذا يكون صوت الحبيب سيداً لزمان شاعرة تعرف كيف ترد على الصوت بالصوت. والشعر صوت وكذلك الغناء. بل إن الكتابة بحد ذاتها هي صوت الروح. وحين تكتب صمتها فإنما تعيد إنتاج الصوت على طريقتها وبمقاسها الوجداني "في صمتي رؤيا تتسع وتكبر ـ والكلمات تضيق". لهذا فإن ذروة المعاناة هي في صمت الشعر. لقد أدارت حوارها مع العالم بالشعر، وحين يصمت الشعر فمعنى ذلك أنها تضرب عن الاتصال بالوجود، فيمحي الحب ويختفي الصوت: "صمت الشعر فلا رجع صدى" والشعر عندها علامة حياة بل علامة الحياة، فإما الشعر وإما "أنني ما زلت أحيا خارج الموت البطيء".
بهذا لا يكون التعارض بين الصوت والصوت ترفاً مانوياً في عالم فدوى طوقان. بل هو جدل الكينونة في ارتقائها إلى لحظة الصيرورة: يأتي الصوت فيولد الصوت الآخر، وقد ينبئ صوت الشاعرة عن صمت شفاف، هو استمرار الجدل. أما الصمت المطبق. صمت العدم، فهو انكسار التجربة الذي يعبر عنه موت الشعر.. ولن يموت الشعر في اللحن الأخير.

الطفلة وردة المرأة
لئن نجحت فدوى طوقان، من حيث لم تخطط، في إنشاء هذا الجدل الخلاق بين الصمت والصوت، لقد نجحت كذلك في الجدل بين الطفلة التي تسكنها وبينها وهي في سن الحكمة والنضج والخبرة الكبيرة. ولهذا تلزمنا وقفة خاصة مع قصيدتها أنشودة الحب التي تستقصي رحلة العمر منذ أن:

كان وراء البنت الطفلة عشرة أعوام
حين دعته بصوت مخنوق بالدمع:
حنانك خذني

والطفلة التي لم يتشكل وعيها بعد. ولم تنضج مساحة شعورها، تظل مخطوفة إلى الغامض المجهول. إلى الآخر. وليكن أباً وأماً أو أهلاً لا على التعيين. لأن ما تحس به هو أنها "وحدي أنا ـ لا شيء أنا ـ أنا ظل". ومشروع الشاعرة المشروع، فيما تتحول الطفلة إلى أنثى، هو أن تخرج من لا شيئيتها، وتتحقق بكيانها، لا بكونها ظلاً للآخر. إلا أن السد الكتيم تمثل في انقطاع الحوار مع العالم. وكيف يكون حوار والكون مهجور "فيه الحب تجمد ـ فيه الحس تبلد" أما سهمها الصاعد باتجاه كينونتها، فهو بحجم وعيها الطفلي "وأنا الطفلة تصبو للحب وتهفو ـ للفرح الطفلي الساذج ـ للنط على الحبل ـ وللغوص بماء البركة ـ للهو مع الأطفال". ولأنها تكتب شعراً ولا تسرد حكاية، فهي لا تخبر أن ثقافة مجتمع الذكور كانت تمنع هذا الصعود التلقائي. لكنها تشير إلى ذلك بالتجريد والتعميم: "القمع يعذبني – والسطوة ترهبني" وإلى ذلك يبدو جسدها ضعيفاً أمام التحديات "والجسم سقيم منهار". من هنا كانت حاجتها إلى الآخر، هذا الغامض غير المحدد ، فتدعوه بما يشبه الصلاة:

أغثني
خذني من عشرة أعوامي
من ظلمة أيامي خذني

وها هي "لوليتا" تتهجى أبجدية الآخر فقد تسللت مفردات من نوع الحضن والصدر ولكنها محروسة باللغة العامة التي تبعد شبح الإحساس الغريزي ـ أنثى لرجل ـ فتحوم حول خلاص المطحونين والمنبوذين والمحرومين، مع الضرب على وتر: خذني، خذني.. إلى أن ننتقل إلى المقطع الثاني مع نهر الأيام، حيث "يمر العام وراء العام ـ الطفلة تكبر والأنثى ـ وردة بستان" وتتفتح الوردة، ويصبح للأطيار ـ بما هي رموز للذكر ـ معنى ملموس. فقد ابتسم الحب وفاض عليها "من كل جهات الدنيا ـ ليطوقها بتمائمه ـ ويباركها بشعائره ـ ويساقيها من كوثره" وهي لم تحصل إلى هذه اللحظة إلا بعد "تخبطها في ليل متاهة" ولكن القلب انتصر على العقل والفكر والأفهام. بتعبير آخر، على النواهي والزواجر. فهي إزاء "كون مكتمل ومعافى ـ تتماهى فيه أنا مع أنت"، ولها أن تندى الأرض. وتخضر حتى العظام، أما الزمن المسحور فيقاس "بدقات القلب المبهور". إنها قصيدة احتفالية. نشيد للحب والحياة. لكن مأساة فدوى، وبنات جنسها ووطنها، أن العالم ليس مغلقاً على قصيدة واحدة، فلا بد من انكسار يتلو هذا الفرح، ولن ننحو باللائمة دوماً على الظرف الموضوعي. فهذا الظرف الموضوعي أنتج كوابح وضغوطاً على الذات، حتى أصبح للذات مشكلاتها المركبة. وقد وعت الشاعرة هذه الحقيقة في وقت مبكر، فكتبت منذ عام 1959 في تقديم قصيدتها "لا مفر" تقول بوضوح:" لا أومن بجبرية تأتينا من الخارج، وإنما الجبرية تكمن في داخل الذات، هي جزء لا ينفصل عن النفس.. ومن هنا مأساة وجودنا الإنساني" وهكذا فإننا إذا فرحنا بإقبالها على الحياة، بعد أن تفتحت الطفلة وردة في بستان الأنثى، فلن نلبث أن نرى كم في هذا البستان من الجراح التي خلفتها الأشواك.

مـوت الحب
لا أذكر اسم الشاعر الفرنسي الذي قال إن تراجيديا الحياة تتمثل في أنك إن مددت يديك على وسعهما لاحتضانها، فإن ظلك سيرسم على الأرض شكل الصليب. والصليب هو رمز العذاب. وها هي شاعرتنا الممتلئة بالحب، تكتشف أن الحب لم يكن إلا "ومضة وانطفأت في أفق العمر ولم تترك أثر ـ عبرت لمح البصر ـ وتلاشت في تلافيف الزمن" بل إن الزمن ميت لم يسفر إلا عن "زفرة أو عبرة أو بعض لوعة ـ خيط حزن، غصة، ظل شجن" وقد تنحني الشاعرة أمام التحدي فتعترف بالانكسار شيئاً، أمام "هجمة العمر ومن وطء السنين" فقد هنأها الحب بمساء الخير ومداعبة الأجفان إذا الصبح تنفس واحتل مساحة ليلها ونهارها "فلسفة لوجودي ظل، ونبعاً" لكن عطباً ألم بالتجربة.

وصحوت على
حلم كابوس جهم ذات صباح

ولأن الشاعرة إحدى ملكات الصمت والأسرار، فإنها لا تبوح، بل تكتفي بلوم القدر، هي التي تحدثت من قبل عن الجبرية الذاتية، ولن تخبر عن سبب هزيمتها الجديدة إلا بأن الحب اغتيل" طعنته سكين الأقدار ـ وسقته كأس الموت المرة" بل إنها تشيع هذا الحب كما نشيع ميتاً عزيزاً "أكذا تغتالك صاعقة القدر الهوجاء ـ أكذا تذروك رياح القدر المشؤوم ـ يا أجمل ما خلق الله ـ فليرحمك الله". على أن الحب الميت لا يكتفي بما يورثه من حسرة ، بل إنه يترك مكانه بغضاً ومقتاً:

كل شيء عاد ، لا شيء سوى بغض عنيف
طلعت نبتتة السوداء من حب عنيف

هكذا يصبح الحبيب غريماً بعد أن ظللها بما يشبه شجر الجنة. ولا جنة الآن بل "تقلبت على نار الجحيم". لقد تلاشى الوهج الذهبي، وانقشع الوهم ليكون الحصاد المر تعبيراً عن نهاية عمر. فالحب هو مسوغ العمر وحين يتلاشى فما جدوى العمر؟ بل إن الحب رحلة نوعية في تجربة تسفر عن اعتراف أليم: "رجعت بخفي حنين ـ بكفين فارغتين". ولا يبقى إلا أن تلوم القدر الذي يلوح من بين السطور أنه ليس الملوم الوحيد، فالمشكلة في الأرض بمعنى المكان، وفي الفراغ وفي المتاهة:

قدر رماك على فراغ
لا تقلك فيه أرض
لا تظلك في متاهته سماء

بل إنها حين مدت يدها لمصافحة الحياة التي عقدت معها ـ كما كنا رأينا ـ صداقة، فإن الذي صافحها هو الهواء. فثمة خلل ما. خلل في المدى المحيط، حيث يمتد الفراغ: "هذا الفراغ هو الحقيقة ـ ما من أحد ـ ما من أحد".

مواصلة الصراع
على أن الفراشة الفولاذية جديرة ببنية روحها. فبقدر ما يبدو الجسد هشاً ويتجلى الجرح عميقاً، تظل الروح مشدودة إلى الأقاصي. عصية على الترويض و"يظل الشعر والحب قريبين من الجن لصيقين به لا يبرحانه" لأن طفل الحب لا ينثني عن عنفوانه. وحين تبرز المحبطات، يبرز، بموازاتها، بأس الأعماق والاستعداد للجولة الجديدة:

وراءك شوط طويل المدى
سفحت عليه سنين العمر

لقد عركت الحياة وفلسفتها، ذاقت حلوها ومرها، وصابرت على الوجه المكفهر. لكن ذلك الشيء الصلب، الداخلي، ظل عصياً على الهزيمة:

فحسبك أنك لم تهزمي
ولا حطمتك سهام القدر

وإلى أن تبرأ الجراح، ويتحامل الجسد للنهوض فالمسير فالوصول، ستظل تواسي قلبها الغوي ولا تتأسى على الحب، بل تخادع حزنها العصي بالضحك. فبعد كل شيء، يظل هناك كوكب "لم يزل مجراه يجري باتجاهي". لقد افتتحت الشاعرة مجموعتها هذه بأغنية تختزل الأسى والخيبة والهزيمة لكنها تنتهي بصيحة الأمل الخفي. ربما كان أملاً في أرض غير موجودة. لكنه كائن:

يبقى الأمل المنشود
بعيداً جداً
يستوطن أرض اللاموجود

ولهذا فهي تستحث "أخا الروح" ألا يموت، وتراهن على الضوء والنكهة والمعنى. بل إن هذا الحب ـ لا إخفاقه ـ نوع من القدر، ولو حاولت أن تنأى عنه فسيظل في داخلها ما "يشدك قسراً إليه ـ بأي جناحين أنت تطيرين هاربة منه.."، وهي تستجيب لهذا القدر الجميل، فلا فرار من مواصلة الصراع مادامت محكومة بالشعر. والشعر، كالحب، علامة حياة، وله على قلبها "سطوة السيد والمولى الأمير" حتى لتتساءل أن تتساءل ونحن نعرف الجواب" ما الذي يمكن أن يفعله قلب يحب الحب للحب وللشعر وللمعنى الجميل". بهذا لا يفوت أوان اتساع البحر. وسيظل اللحن يعزف أخيراً لا آخراً. لتكون رسالة الشاعرة هي مواصلة الحضور في العالم. قد يكون هذا العالم بيتاً موحشاً. قد لا يكون أماً وليس فيه أهل. بل إن الحبيب يختفي صوته والصمت يسود، لكن للروح احتياطياتها الدفاعية الهجومية "فرحاً وموسيقى وأعياداً وأشعاراً وشمساً أشرقت في جنح ليل زمهريري طويل".. ولم ينتصر الزمهرير على شمس فدوى طوقان الدافئة، بل إن هذه الشمس من شأنها أن تحرس بدفئها تجارب الأجيال الراهنة والقادمة.

شجـون اللحن الأخير
حين دفعت شاعرة فلسطين الكبيرة فدوى طوقان، بمجموعتها هذه إلى النور، لم تكن تطلب تأكيد وجود هو مؤكد بألف علامة وإشارة. وكما قلت في البداية، لم تضع لحناً أخيراً لاختتام الرحلة، بل كانت في صميم سيرورتها التي أدت إلى هذه الخلاصة الشعرية. لقد ابتدأت حياتها الوجودية والشعرية بالقول: حياتي وعود، وحزن وديوان شعر وعود. وظل الحزن وديوان الشعر علامتيها المتجددتين باستمرار، حتى ليمكن للقارئ المجرب أن يعرف أن هذه القصيدة أو تلك، من شعر فدوى حتى لو لم يكن اسمها مطبوعاً، ولا يعني هذا أن في الأمر تكراراً، بل هو العمل على ثيمة فنية ذات خصائص مميزة. لكنها تحمل ثراءها في داخلها من خلال اتساع التجربة الوجودية والثقافية. على أن فدوى المرتبط اسمها بجملة التجديد في الشعر العربي المعاصر، تبدو في هذه المجموعة أحياناً، وقد خفت قبضتها التي لم تكن متسامحة مع العبارات التقليدية، فوقعنا على كلام من نوع "الأمل المنشود ـ وهزيم الرعود ـ المساء الكئيب ـ أخو الروح ـ النبراس المضيء ـ الغيث همى ـ حبي الطاهر ـ شغاف القلب ـ رجع الصدى ـ سهام القدر ـ كأس الموت المرة ـ انقشع الوهم" وقد يكون من حق الشاعر الحديث أن يستخدم أمثال هذه الكليشهات، لكن في إطار النص الغائب، حيث يستحضر المألوف شاهداً أو مفارقاً لغير المألوف. أما أن يتم استخدامها كما يستخدمها الذين ثار جيل فدوى عليهم، فهو نوع من التساهل الذي يحرج حساسية الحداثة. إلا أنه من حسن حظ الشعر أن مثل هذه العبارات كانت تمر لماماً في "اللحن الأخير"، ولم تتنازل الشاعرة عن أي انتصار جوهري مما أحرزه الشعر الحديث، فضلاً عن أنها أنجزت مجموعة شعرية متجانسة، حتى لتبدو قصيدة درامية يحكمها الصراع بين المد والجزر، والشد والجذب، والحزن والفرح، واليأس والأمل. وقليلة هي المجموعات الشعرية (مما نقرأ هذه الأيام) التي تنشغل بالوحدة العضوية لا داخل القصيدة، فذلك من تحصيل الحاصل إذا كنا نطلب شعراً حقيقياً، ولكن من داخل المجموعة كلها. بل إن شعر فدوى كله، بهذا المعنى، هو قصيدة متصلة تتجوهر وتتأصل وتتجدد. إنها لا تركن للمناسبة، لكنها تستطيع أن تفجر من المناسبة فضاء شعرياً عابراً للزمن، كما فعلت في رثائها لأخويها إبراهيم ونمر، وفي قصائدها المرتبطة بفلسطين نكبة وسؤالاً وثورة وانتفاضة. وإذا لم تمر فلسطين بهذه المجموعة الأخيرة، فلأن السياق لم يقتض ذلك. ولكن: منذا الذي يزعم أن فلسطين لن تكون ساطعة الحضور لمجرد مرور اسم فدوى طوقان؟

ثم ماذا؟ قد تفاجئنا فدوى، بعد غيابها، بأشعار كانت تخبئها ضمن ما وصفته بسر أسرارها. وقد لا نجد في أوراقها جديداً. وإن كنت أراهن شخصياً على "الكنوز" التي احتفظت بها من الأشعار "المحظورة" لشقيقها الشاعر الكبير ابراهيم طوقان. ومع ذلك تعالوا نعترف بأن هذه الثمانينية الرقيقة قد حرست الطفلة في روحها، وأبعدتها عن لواقط فضولنا. فهي التي قالت في واحدة من أجرأ ما كتبته النساء في الحب:

حزني أعز وأقدس من أن يقال..

من حقها أن تأخذ حزنها معاً.. ولكن من ينكر أنها تركت لنا حزناً غير محسوب، لأن علينا منذ 12/12/2003 أن نواصل الحياة وليس فيها من فدوى طوقان إلا أشعارها التي توجتها باللحن الأخير.


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
المهندس محمد فرج
عضو موسس للمنتدى
المهندس محمد فرج

ذكر
تاريخ التسجيل : 15/12/2007
عدد المشاركات : 123667
نقاط التقييم : 126296
بلد الاقامة : ماريا وترابها زعفران
علم بلدك : Egypt مصر
الجوزاء

فدوى طوقان ورسالة "اللحن الأخير"..  Empty
مُساهمةموضوع: رد: فدوى طوقان ورسالة "اللحن الأخير"..    فدوى طوقان ورسالة "اللحن الأخير"..  Emptyالسبت أكتوبر 19, 2013 10:39 am

سلمت يداكى للطرح الراقى ....لك كل الود.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
ايمان الساكت
نائبة المدير العام -فراشة اشتياق - اديبة
ايمان الساكت

انثى
تاريخ التسجيل : 18/10/2013
عدد المشاركات : 56084
نقاط التقييم : 60064
بلد الاقامة : مصر- القاهره
علم بلدك : Egypt مصر
الحمل

فدوى طوقان ورسالة "اللحن الأخير"..  Empty
مُساهمةموضوع: رد: فدوى طوقان ورسالة "اللحن الأخير"..    فدوى طوقان ورسالة "اللحن الأخير"..  Emptyالثلاثاء يناير 14, 2014 12:53 am

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
همسة قلم
اديبة


انثى
تاريخ التسجيل : 17/11/2013
عدد المشاركات : 13947
نقاط التقييم : 14510
بلد الاقامة : لبنان
علم بلدك : Lebanon لبنان

فدوى طوقان ورسالة "اللحن الأخير"..  Empty
مُساهمةموضوع: رد: فدوى طوقان ورسالة "اللحن الأخير"..    فدوى طوقان ورسالة "اللحن الأخير"..  Emptyالأربعاء يناير 22, 2014 6:08 pm

أديبتنا القاصة القديرة
من بحور أدبياتك النيرة
كان لنا وقفة ميسرة
لموضوع فيه الرقي
ينضح بعد كل عبارة
أشكرك على روعة ما قدمتي
وعلى إثراءكِ لمكتبة فاخرة
وأشكرك على هذه الدراسات القيمة
وعلى إنتقاءاتكِ الأديبة المهمة 
التي تجلت هنا بأجمل المعاني 
وبدراسة مفصلة باللغة والمباني
عبر أثير اللحن الأخير
أتقدم منكِ بالورد والعبير
أديبتنا نورة الدوسري
لكِ ولروحكِ الأحداق شاكرة
مع أصدق تحياتي ومحبة وافرة

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
احلام شحاتة
الادارة العليا -المشرفة العامة - شمس اشتياق
احلام شحاتة

انثى
تاريخ التسجيل : 08/03/2014
عدد المشاركات : 61741
نقاط التقييم : 66613
بلد الاقامة : مصر
علم بلدك : Egypt مصر
السمك

فدوى طوقان ورسالة "اللحن الأخير"..  Empty
مُساهمةموضوع: رد: فدوى طوقان ورسالة "اللحن الأخير"..    فدوى طوقان ورسالة "اللحن الأخير"..  Emptyالثلاثاء أغسطس 12, 2014 6:25 am

نوره الدوسري كتب:

فدوى طوقان ورسالة "اللحن الأخير"..



في الخطاب العربي السائد، يتردد، أحياناً، قول من نوع: "وأخيراً لا آخراً"، وهو شكل من مماطلة الكلام تجاه الموضوع. من حيث كونه تعبيراً عن قطوف النهايات، مع وعد بأن آخر كلمة لم تقل بعد. وهذا يعني أن الحوار مستمر، ونهر الحياة متصل..
كانت شمس هذا اليقين تلزمنا، لنجرّ لحظة التفاؤل إلى منطقة الضوء، وعندما وقفنا، بين الدهشة والغبطة، أمام شاعرتنا الكبيرة فدوى طوقان، وهي تتحدى رهاب الزمن وقد تشبث بها الشعر، فتقدم "اللحن الأخير" في العام الألفين، لتكون تلك مجموعتها الثامنة بعد "وحدي مع الأيام ـ وجدتها ـ أعطنا حباً ـ أمام الباب المغلق ـ الليل والفرسان ـ على قمة الدنيا وحيداً ـ تموز والشيء الآخر".. وعلى هذا فإن مجموعة "اللحن الأخير" تؤخذ بوصفها حركة في إيقاع متصل نابض بالألم والفقد والعناد والاكتشاف. وتمدنا المصادفة الزمنية ببعد رمزي، عندما نصحح خطأ شائعاً حول العام الألفين، فهو آخر القرن العشرين وليس بداية الألفية الثالثة، وعلى هذا فإن "اللحن الأخير" هو خلاصة لتصفية حساب مع قرن من الزمن، إيذاناً باستقبال عصر جديد.

ومما له دلالة أن آخر مجموعات الشاعرة في أعمالها المنجزة، هي "تموز والشيء الآخر"، وتموز هو المنتصر على الموت، بما هو رمز للقيامة واستئناف الحياة. وتؤكد فدوى طوقان هذا المعنى، موضوعياً، وربما من حيث لا تدري، في حديثها المثير المدوي ـ في رأيي ـ الذي أدلت به لمجلة الوسط ـ العدد الصادر في 17/9/2000 كاشفة عن أن "اللحن الأخير" خلاصة تجربة حب عاشتها وهي في هذا العمر مع رجل أحب عينيها وأحبت روحه. فهذه الفراشة المهددة بلهب الشرق المميت منذ عقابيل الحرب العالمية الأولى، ظلت روحها الفولاذية قادرة على الصمود، والانتقال من موقع إلى موقع في معركة الحياة. إنها هي هي الفتاة التي أنشدت قبل زهاء نصف قرن "ألف انفعال ألف عاطفة ـ محمومة بدمي  بأعراقي ـ ماذا أحس؟  أحس بي لهفاً ـ حيران يغمر كل آفاقي" وها هي، أميرة الشعر التي تقول هذه الأيام: "مازلت أحاور مالم يوجد ـ كي أعطيه وجود"، لا بمعنى أنها تراوح في المكان، بل على النقيض، إنها تتقدم وتسأل وتتحقق، لكن الزمن المكسور هو الذي لم يتقدم في شرقنا ووطننا إلا قليلاً.

لقد غيرت مجموعة "اللحن الأخير" خطتي الطموح. فقد كنت ـ بعد قصيدة  بانورامية كتبتها من وحي تجربتها وأهديتها إياها ـ أفكر في إعادة قراءة مشروعها الشعري كله. وكانت الشاعرة الكبيرة قد طوقت عنقي بحوار أجراه معها الكاتب المصري طلعت شاهين لجريدة أخبار الأدب" قالت فيه إن ما كتبته عن شعرها هو الأهم، على كثرة الدراسات والرسائل الأكاديمية المكتوبة في شعرها.
لكن "اللحن الأخير"، مع التصريح الأخير بقصة الحب الأخيرة، أملى حضوره الطاغي، فكان لا بد من هذه الوقفة المسترسلة. فما الذي أرادت فدوى طوقان أن توصله إلينا، قبل ورقة النعي التي لم تستطع ست وثمانون سنة من منعها عن أن تكون مباغتة لنا جميعاً؟
صداقــة الحياة
علينا أن نأخذ تصريح فدوى طوقان بالحب الأخير، على محمل الرمز لا المجاز.  هو رمز لأن قوة الحياة لا تعترف بوطأة الزمن. والحب علامة قوة، بل إنه لحظة مصالحة مع الحياة وإنشاء صداقة معها بعد طول نبذ وصراع ومعاناة:

وعلمتني كيف تصبح دنيا المحال
البعيد المنال حقيقة
فتغدو الحياة صديقة

وهو ليس مجازاً مادام الواقع قادراً على أن يمدنا بالرموز من صميم حياتنا اليومية. فنحن البشر، نولد ونكبر ونحب ونتألم، ننكسر وننتصر، فلكل منا قصته، ولكن ذهاب هذه القصة إلى لحظة الإبداع، يعني الارتفاع بها من الشأن الشخصي إلى الرمز العام. ودور الشعر، في أحد مستوياته، هو الحفاظ  على سهم الخلق الصاعد من الذات إلى الآخر.  فالحب حالة خاصة بين حبيبين، لكن عندما يكون أحدهما مبدعاً، فإنه، من خلال منطوقه الإبداعي، يتحول إلى ناطق باسم المحبين الذين على شاكلته في العالم.  ولقد كانت شاعرتنا تصدر عن هذا المنطق من غير مواربة، فتؤكد "أنت المعنى، أنت الرمز" وعلى هذا فإن الحب "يسع الأرض وأطباق السما"، بل أن هذا الحب أصبح ترسيخاً لوجود الذات المحبة المبدعة "تأكيداً لوجودي ظل صديق العمر ونبض العمر". لكن هذه المعاني المتسامية للحب لا تخرجه من سيرورة الحياة إلى المجاز المقارب للأفكار والأحلام والأمنيات، بل إنها تتكثف وتتجسد في مشهد عياني. هكذا لن تهرب الشاعرة إلى النفاق الاجتماعي فتدعي أن قصيدتها في الحب تنهل من لحظة أمان معترف بها، بل تصدع بحق الحب على الصدق: "تحكي في همس عن حب، هو أغرب حب ـ حب الأخت أخاها ـ حب الأم لواحدها ـ حب صديق لصديق ـ يا سيد قلبي هذا حبي الطاهر لكن ـ في قلبي شيء آخر ـ يختبئ وراء الصمت" وإذا كانت لا تأبه بالضاغط الظلامي الذي يسفه الفرح، ويعترض على صداقة الحياة، فإنها ليست ملزمة بكشف أكثر مما تريد. إن من حق "الشيء الآخر" أن يظل محتجباً في صمتها الحميم. وهذا ليس جديداً عليها. ألم تؤكد لحبيبها قبل خمس وأربعين سنة في "القصيدة الأولى" من مجموعة "أعطنا حباً":

لا لا تسلني، لن أبوح به               سيظل حبك سر أسراري

على أن السرّ المكنون لا يلبس قناع المسكوت عنه. فهي تعتصم بالصمت لا خوفاً ولا حذراً، بل لأن الصمت مملكتها الجوانية المقدسة. وإذا كان من بوح فمن خلال الفرح أو الأسى اللذين يتوهجان في الملامح، وينقلان رسالة المشاعر الذاتية إلى الملأ الموضوعي:

.. كيف عبرت حقول الصقيع
بهذا التوهج ، هذا السطوع البديع؟

ولأن هذا التوهج منوط بالذات،  فقد يومض وينطفئ، يقول ولا يقول، لكنه ينطوي على المعنى الجميل. معنى أن نحب فنكون أكثر ألفة مع الوجود، وأكثر صداقة للحياة حيث "طفل الحب يمضي سادراً في غيه لا ينثني عن عنفوانه".. وأي عنفوان! إنه القلب الأخضر المعافى شاباً في ريعان ما بعد السبعين.

التقاط الفرصــة
ولأنه حب حقيقي، لا مجازي، فهو يتعرض كأي حب، للعواصف والصدمات، و يتطلب استحقاقات الأرق والحيرة والألم: "النوم عصي ـ والليل تطول مسافته ـ والصمت رفيق". ويأخذ الحب معادله الموضوعي من البحر، هذا الشاسع الذي ضاق بما رحب "ويا بحر فات أوان اتساعك" لأن الحب يقلص المسافات زماناً ومكاناً فيكون البحر هو "اللازمان" أما ماؤه فهو ملح الموت. لكن هذا ليس إلا أحد وجوه البحر بما هو معادل للحب. لأن ثمة وجوهاً تسفر عن الصخب والسكينة، بل عن المتناقضات جميعاً:

وأنت التوتر، أنت التمزق
أنت اختلاط العقول
وأنت الصراع وأنت الضياع

وحين تعبر الشاعرة عن خوفها من هذا المجهول "القوي العتي" المفعم باللا أمان واللا نهاية يهدهدها البحر ـ أو الحب ـ فهو "عبقر الشعراء، مبدع المعجزات" بل إنه يوشي نسيج الوجود بدر المحار وبمرجان القلب ومذاب اللازورد. البحر هو الماء، وجعلنا من الماء كل شيء حي، والماء ميعاد وردة الروح مع الحياة "أنا الماء محيي الموات" وإذ تطمئن الشاعرة لهذا المدى المائي، تستسلم لقوة جاذبيته.  فالبحر، كالحب، شيء كالقدر:

وأدخل في جسد الماء،
يا قوة الجذب أنت
فلبيك لبيك

وهي لا تكتفي بالذهاب إلى هذا البحر اختياراً نهائياً. بل تمنحه الصفة التي يستحق: أنه سيد الأرض. وأن يكون البحر معادلاً موضوعياً للحب، يعني أن الطبيعة شريكة في اختلاجات القلب واختلاط المشاعر. لقد كان البحر مفتاح الربيع، ولكن للشتاء دورته أيضاً" وأقبل ديسمبر الجهم نحوي يحث خطاه ـ يلفع بالثلج جسم المساء الكئيب". فمادام الحب بحراً، فهو مد وجزر. وينسحب هذان النقيضان على قوانين الطبيعة كلها بحيث يغدو القمر "على طرف الكون يزحف واهي الخطى نحو كهف المغيب". هكذا تأخذ مانوية الحياة بعديها المتضادين من نواميس الوجود. فإذا كان ربيع، فإن ثمة شتاء "وريح الشتاء تعري الوجود ـ وتفرغه من هبات الحياة" لكن المحبة لا تستسلم.  فهي الوردة المعجزة القادرة على استحضار بشاشة الربيع، بل وتغيير منطق دورة السنة:

وغيرت طقس الفصول
ولامست معجزة الخلق والمدهش المستحيل

وتحتفل اللغة في شفتيها ومع مداد قلمها  فثمة انتشاء وارتواء وجمال وثراء وكل ينابيع هذا الفرح، وكل ابتسامات قوس قزح.  فالشاعرة التي تدرك محدودية الحياة، تدرك أيضاً أننا نستطيع أن نوسع هذه الحياة، وأن نجعلها أكثر جمالاً، بالتقاط الفرصة حيث يغرق هذا العالم في الموسيقى ونغني أصفى أشعار الحب المتوهج: "ما أحلى الحب وما أبهاه ـ يحيا بين يديه رميم".
الصمت والصــوت
تبدو حاسة السمع، التي لا بد وأن نشفعها بما يمكن أن نسميه السمع الحدسي، وكأنها بوابة الشاعرة لولوج العالم. وقد يصعب إحصاء المرات التي تتواتر فيها كلمتا الصمت والصوت. فالصوت هو رائحة الحبيب، وهو أيضاً أفق الخيال:

ما الذي يجعل من صوتك أفقاً
خارج الأرض إذا ارتاد
فضاءات القصيدة

وللصوت أيضاً بعده غير المحسوس، هذا الذي يلتقط سمع الشاعرة حدساً وتخميناً: "إنك إيقاع حياتي ـ والنغم الأحلى في عمري" ومادام كذلك، فإن لصوت الحبيب مستوى ميتافيزيقياً لا نعرف من أين تستقبله هذه المحبة السعيدة: "يأتيني صوتك من أقصى أقصى الدنيا" وليس هذا الصوت الحبيب آمراً ناهياً يترك الشاعرة في موقع المتلقي السلبي، فهي تتلقف هذا الصوت لتصبح إنسانة مختلفة بحس مختلف ورؤيا قادرة على الكشف وصولاً إلى لحظة الإبداع. إن صوت الحبيب "يعمق فيّ الحس ـ يوسع فيّ مجالات الرؤيا ـ يفتح لي آفاق الكشف ـ يشرع لي أبواب الشعر"، وعلى هذا فإن الصوت هو معراج باهر الضوء، يتحول إلى فرح دائم "يحتضن القلب كما فرح البنت بثوب العيد". وإذا كان شعر فدوى يرفل بالضوء عرساً بصرياً، والزهر فاكهة الرائحة، والنكهة طعماً وذوقاً، فإن الصوت يبقى الأهم. لأنه وسيلة عناق الروحين والعقلين معاً. والشاعرة لا تفسر الظاهرة، بل بها تحتفل، وفي فمها سؤال معروف الجواب:

ما الذي يجعل من صوتك نهرين
يفيضان بأعماقي حنيناً وشجن

والحنين يصلها بالماضي. أما الشجن فهو اللاحم بين الماضي و الحاضر. وحين نتذكر، في شعر فدوى أن الصوت يأتي من الأقاصي البعيدة، فهو أيضاً رباط المستقبل. وبهذا يكون صوت الحبيب سيداً لزمان شاعرة تعرف كيف ترد على الصوت بالصوت. والشعر صوت وكذلك الغناء. بل إن الكتابة بحد ذاتها هي صوت الروح. وحين تكتب صمتها فإنما تعيد إنتاج الصوت على طريقتها وبمقاسها الوجداني "في صمتي رؤيا تتسع وتكبر ـ والكلمات تضيق". لهذا فإن ذروة المعاناة هي في صمت الشعر. لقد أدارت حوارها مع العالم بالشعر، وحين يصمت الشعر فمعنى ذلك أنها تضرب عن الاتصال بالوجود، فيمحي الحب ويختفي الصوت: "صمت الشعر فلا  رجع صدى" والشعر عندها علامة حياة بل علامة الحياة، فإما الشعر وإما "أنني ما زلت أحيا خارج الموت البطيء".
بهذا لا يكون التعارض بين الصوت والصوت ترفاً مانوياً في عالم فدوى طوقان. بل هو جدل الكينونة في ارتقائها إلى لحظة الصيرورة: يأتي الصوت فيولد الصوت الآخر، وقد ينبئ صوت الشاعرة عن صمت شفاف، هو استمرار الجدل.  أما الصمت المطبق. صمت العدم، فهو انكسار التجربة الذي يعبر عنه موت الشعر.. ولن يموت الشعر في اللحن الأخير.

الطفلة وردة المرأة
لئن نجحت فدوى طوقان، من حيث لم تخطط، في إنشاء هذا الجدل الخلاق  بين الصمت والصوت، لقد نجحت كذلك في الجدل بين الطفلة التي تسكنها وبينها وهي في سن الحكمة والنضج والخبرة الكبيرة. ولهذا تلزمنا وقفة خاصة مع قصيدتها أنشودة الحب التي تستقصي رحلة العمر منذ أن:

كان وراء البنت الطفلة عشرة أعوام
حين دعته بصوت مخنوق بالدمع:
حنانك خذني

والطفلة التي لم يتشكل وعيها بعد. ولم تنضج مساحة شعورها، تظل مخطوفة إلى الغامض المجهول. إلى الآخر. وليكن أباً وأماً أو أهلاً لا على التعيين. لأن ما تحس به هو أنها "وحدي أنا ـ لا شيء أنا ـ أنا ظل". ومشروع الشاعرة المشروع، فيما تتحول الطفلة إلى أنثى، هو أن تخرج من لا شيئيتها، وتتحقق بكيانها، لا بكونها ظلاً للآخر. إلا أن السد الكتيم تمثل في انقطاع الحوار مع العالم. وكيف يكون حوار والكون مهجور "فيه الحب تجمد ـ فيه الحس تبلد" أما سهمها الصاعد باتجاه كينونتها، فهو بحجم وعيها الطفلي "وأنا الطفلة تصبو للحب وتهفو ـ للفرح الطفلي الساذج ـ للنط على الحبل ـ وللغوص بماء البركة ـ للهو مع الأطفال". ولأنها تكتب شعراً ولا تسرد حكاية، فهي لا تخبر أن ثقافة مجتمع الذكور كانت تمنع هذا الصعود التلقائي. لكنها تشير إلى ذلك بالتجريد والتعميم: "القمع يعذبني – والسطوة ترهبني" وإلى ذلك يبدو جسدها ضعيفاً أمام التحديات "والجسم سقيم منهار". من هنا كانت حاجتها إلى الآخر، هذا الغامض غير المحدد ، فتدعوه بما يشبه الصلاة:

أغثني
خذني من عشرة أعوامي
من ظلمة أيامي خذني

وها هي "لوليتا" تتهجى أبجدية الآخر فقد تسللت مفردات من نوع الحضن والصدر ولكنها محروسة باللغة العامة التي تبعد شبح الإحساس الغريزي ـ أنثى لرجل ـ فتحوم حول خلاص المطحونين والمنبوذين والمحرومين، مع الضرب على وتر: خذني، خذني.. إلى أن ننتقل إلى المقطع الثاني مع نهر الأيام، حيث "يمر العام وراء العام ـ الطفلة تكبر والأنثى ـ وردة بستان" وتتفتح الوردة، ويصبح للأطيار ـ بما هي رموز للذكر ـ معنى ملموس. فقد ابتسم الحب وفاض عليها "من كل جهات الدنيا ـ ليطوقها بتمائمه ـ ويباركها بشعائره ـ ويساقيها من كوثره" وهي لم تحصل إلى هذه اللحظة إلا بعد "تخبطها في ليل متاهة" ولكن القلب انتصر على العقل والفكر والأفهام. بتعبير آخر، على النواهي والزواجر. فهي إزاء "كون مكتمل ومعافى ـ تتماهى فيه أنا مع أنت"، ولها أن تندى الأرض. وتخضر حتى العظام، أما الزمن المسحور فيقاس "بدقات القلب المبهور". إنها قصيدة احتفالية. نشيد للحب والحياة. لكن مأساة فدوى، وبنات جنسها ووطنها، أن العالم ليس مغلقاً على قصيدة واحدة، فلا بد من انكسار يتلو هذا الفرح، ولن ننحو باللائمة دوماً على الظرف الموضوعي. فهذا الظرف الموضوعي أنتج كوابح وضغوطاً على الذات، حتى أصبح للذات مشكلاتها المركبة. وقد وعت الشاعرة هذه الحقيقة في وقت مبكر، فكتبت منذ عام 1959 في تقديم قصيدتها "لا مفر" تقول بوضوح:" لا أومن بجبرية تأتينا من الخارج، وإنما الجبرية تكمن في داخل الذات، هي جزء لا ينفصل عن النفس.. ومن هنا مأساة وجودنا الإنساني" وهكذا فإننا إذا فرحنا بإقبالها على الحياة، بعد أن تفتحت الطفلة وردة في بستان الأنثى، فلن نلبث أن نرى كم في هذا البستان من الجراح التي خلفتها الأشواك.

مـوت الحب
لا أذكر اسم الشاعر الفرنسي الذي قال إن تراجيديا الحياة تتمثل في أنك إن مددت يديك على وسعهما لاحتضانها، فإن ظلك سيرسم على الأرض شكل الصليب. والصليب هو رمز العذاب. وها هي شاعرتنا الممتلئة بالحب، تكتشف أن الحب لم يكن إلا "ومضة وانطفأت في أفق العمر ولم تترك أثر ـ عبرت لمح البصر ـ وتلاشت في تلافيف الزمن" بل إن الزمن ميت لم يسفر إلا عن "زفرة أو عبرة أو بعض لوعة ـ خيط حزن، غصة، ظل شجن" وقد تنحني الشاعرة أمام التحدي فتعترف بالانكسار شيئاً، أمام "هجمة العمر ومن وطء السنين" فقد هنأها الحب بمساء الخير ومداعبة الأجفان إذا الصبح تنفس واحتل مساحة ليلها ونهارها "فلسفة لوجودي ظل، ونبعاً" لكن عطباً ألم بالتجربة.

وصحوت على
حلم كابوس جهم ذات صباح

ولأن الشاعرة إحدى ملكات الصمت والأسرار، فإنها لا تبوح، بل تكتفي بلوم القدر، هي التي تحدثت من قبل عن الجبرية الذاتية، ولن تخبر عن سبب هزيمتها الجديدة إلا بأن الحب اغتيل" طعنته سكين الأقدار ـ وسقته كأس الموت المرة" بل إنها تشيع هذا الحب كما نشيع ميتاً عزيزاً "أكذا تغتالك صاعقة القدر الهوجاء ـ أكذا تذروك رياح القدر المشؤوم ـ يا أجمل ما خلق الله ـ فليرحمك الله".  على أن الحب الميت لا يكتفي بما يورثه من حسرة ، بل إنه يترك مكانه بغضاً ومقتاً:

كل شيء عاد ، لا شيء سوى بغض عنيف
طلعت نبتتة السوداء من حب عنيف

هكذا يصبح الحبيب غريماً بعد أن ظللها بما يشبه شجر الجنة. ولا جنة الآن   بل "تقلبت على نار الجحيم". لقد تلاشى الوهج الذهبي، وانقشع الوهم ليكون الحصاد المر تعبيراً عن نهاية عمر. فالحب هو مسوغ العمر وحين يتلاشى فما جدوى العمر؟ بل إن الحب رحلة نوعية في تجربة تسفر عن اعتراف أليم: "رجعت بخفي حنين ـ بكفين فارغتين". ولا يبقى إلا أن تلوم القدر الذي يلوح من بين السطور أنه ليس الملوم الوحيد، فالمشكلة في الأرض بمعنى المكان، وفي الفراغ وفي المتاهة:

قدر رماك على فراغ
لا تقلك فيه أرض
لا تظلك في متاهته سماء

بل إنها حين مدت يدها لمصافحة الحياة التي عقدت معها ـ كما كنا  رأينا ـ صداقة، فإن الذي صافحها هو الهواء. فثمة خلل ما. خلل في المدى المحيط، حيث يمتد الفراغ: "هذا الفراغ هو الحقيقة ـ ما من أحد ـ ما من أحد".

مواصلة الصراع
على أن الفراشة الفولاذية جديرة ببنية روحها.  فبقدر ما يبدو الجسد هشاً ويتجلى الجرح عميقاً، تظل الروح مشدودة إلى الأقاصي. عصية على الترويض و"يظل الشعر والحب قريبين من الجن لصيقين به لا يبرحانه" لأن طفل الحب لا ينثني عن عنفوانه. وحين تبرز المحبطات، يبرز، بموازاتها، بأس الأعماق والاستعداد للجولة الجديدة:

وراءك شوط طويل المدى
سفحت عليه سنين العمر

لقد عركت الحياة وفلسفتها، ذاقت حلوها ومرها، وصابرت على الوجه المكفهر. لكن ذلك الشيء الصلب، الداخلي، ظل عصياً على الهزيمة:

فحسبك أنك لم تهزمي
ولا حطمتك سهام القدر

وإلى أن تبرأ الجراح، ويتحامل الجسد للنهوض فالمسير فالوصول، ستظل تواسي قلبها الغوي ولا تتأسى على الحب، بل تخادع حزنها العصي بالضحك.  فبعد كل شيء، يظل هناك كوكب "لم يزل مجراه يجري باتجاهي". لقد افتتحت الشاعرة مجموعتها هذه بأغنية تختزل الأسى والخيبة والهزيمة لكنها تنتهي بصيحة الأمل الخفي. ربما كان أملاً في أرض غير موجودة. لكنه كائن:

يبقى الأمل المنشود
بعيداً جداً
يستوطن أرض اللاموجود

ولهذا فهي تستحث "أخا الروح" ألا يموت، وتراهن على الضوء والنكهة والمعنى. بل إن هذا الحب ـ لا إخفاقه ـ نوع من القدر، ولو حاولت أن تنأى عنه فسيظل في داخلها ما "يشدك قسراً إليه ـ بأي جناحين أنت تطيرين هاربة منه.."، وهي تستجيب لهذا القدر الجميل، فلا فرار من مواصلة الصراع مادامت محكومة بالشعر. والشعر، كالحب، علامة حياة، وله على قلبها "سطوة السيد والمولى الأمير" حتى لتتساءل أن تتساءل ونحن نعرف الجواب" ما الذي يمكن أن يفعله قلب يحب الحب للحب وللشعر وللمعنى الجميل". بهذا لا يفوت أوان اتساع البحر. وسيظل اللحن يعزف أخيراً لا آخراً. لتكون رسالة الشاعرة هي مواصلة الحضور في العالم. قد يكون هذا العالم بيتاً موحشاً. قد لا يكون أماً وليس فيه أهل. بل إن الحبيب يختفي صوته والصمت يسود، لكن للروح احتياطياتها الدفاعية الهجومية "فرحاً وموسيقى وأعياداً وأشعاراً وشمساً أشرقت في جنح ليل زمهريري طويل".. ولم ينتصر الزمهرير على شمس فدوى طوقان الدافئة، بل إن هذه الشمس من شأنها أن تحرس بدفئها تجارب الأجيال الراهنة والقادمة.

شجـون اللحن الأخير
حين دفعت شاعرة فلسطين الكبيرة فدوى طوقان، بمجموعتها هذه إلى النور، لم تكن تطلب تأكيد وجود هو مؤكد بألف علامة وإشارة. وكما قلت في البداية، لم تضع لحناً أخيراً لاختتام الرحلة، بل كانت في صميم سيرورتها التي أدت إلى هذه الخلاصة الشعرية. لقد ابتدأت حياتها الوجودية والشعرية بالقول: حياتي وعود، وحزن وديوان شعر وعود. وظل الحزن وديوان الشعر علامتيها المتجددتين باستمرار، حتى ليمكن للقارئ المجرب أن يعرف أن هذه القصيدة أو تلك، من شعر فدوى حتى لو لم يكن اسمها مطبوعاً، ولا يعني هذا أن في الأمر تكراراً، بل هو العمل على ثيمة فنية ذات خصائص مميزة. لكنها تحمل ثراءها في داخلها من خلال اتساع التجربة الوجودية والثقافية. على أن فدوى المرتبط اسمها بجملة التجديد في الشعر العربي المعاصر، تبدو في هذه المجموعة أحياناً، وقد خفت قبضتها التي لم تكن متسامحة مع العبارات التقليدية، فوقعنا على كلام من نوع "الأمل المنشود ـ وهزيم الرعود ـ المساء الكئيب ـ أخو الروح ـ النبراس المضيء ـ الغيث همى ـ حبي الطاهر ـ شغاف القلب ـ رجع الصدى ـ سهام القدر ـ كأس الموت المرة ـ انقشع الوهم" وقد يكون من حق الشاعر الحديث أن يستخدم أمثال هذه الكليشهات، لكن في إطار النص الغائب، حيث يستحضر المألوف شاهداً أو مفارقاً لغير المألوف. أما أن يتم استخدامها كما يستخدمها الذين ثار جيل فدوى عليهم، فهو نوع من التساهل الذي يحرج حساسية الحداثة. إلا أنه من حسن حظ الشعر أن مثل هذه العبارات كانت تمر لماماً في "اللحن الأخير"، ولم تتنازل الشاعرة عن أي انتصار جوهري مما أحرزه الشعر الحديث، فضلاً عن أنها أنجزت مجموعة شعرية متجانسة، حتى لتبدو قصيدة درامية يحكمها الصراع بين المد والجزر، والشد والجذب، والحزن والفرح، واليأس والأمل. وقليلة هي المجموعات الشعرية (مما نقرأ هذه الأيام) التي تنشغل بالوحدة العضوية لا داخل القصيدة،  فذلك من تحصيل الحاصل إذا كنا نطلب شعراً حقيقياً، ولكن من داخل المجموعة كلها. بل إن شعر فدوى كله، بهذا المعنى، هو قصيدة متصلة تتجوهر وتتأصل وتتجدد. إنها لا تركن للمناسبة، لكنها تستطيع أن تفجر من المناسبة فضاء شعرياً عابراً للزمن، كما فعلت في رثائها لأخويها إبراهيم ونمر، وفي قصائدها المرتبطة بفلسطين نكبة وسؤالاً وثورة وانتفاضة. وإذا لم تمر فلسطين بهذه المجموعة الأخيرة، فلأن السياق لم يقتض ذلك. ولكن: منذا الذي يزعم أن فلسطين لن تكون ساطعة الحضور لمجرد مرور اسم فدوى طوقان؟

ثم ماذا؟ قد تفاجئنا فدوى، بعد غيابها، بأشعار كانت تخبئها ضمن ما وصفته بسر أسرارها. وقد لا نجد في أوراقها جديداً. وإن كنت أراهن شخصياً على "الكنوز" التي احتفظت بها من الأشعار "المحظورة" لشقيقها الشاعر الكبير ابراهيم طوقان. ومع ذلك تعالوا نعترف بأن هذه الثمانينية الرقيقة قد حرست الطفلة في روحها، وأبعدتها عن لواقط فضولنا. فهي التي قالت في واحدة من أجرأ ما كتبته النساء في الحب:

حزني أعز وأقدس من أن يقال..

من حقها أن تأخذ حزنها معاً.. ولكن من ينكر أنها تركت لنا حزناً غير محسوب، لأن علينا منذ 12/12/2003 أن نواصل الحياة وليس فيها من فدوى طوقان إلا أشعارها التي توجتها باللحن الأخير.


 
الأستاذة الرائعة نوره الدوسري
الشاعرة فدوى طوقان لها في قلبي مكانة خاصة جدا
تحياتي و مودتي
 elephant 
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
الدكتور خليل البدوي
مستشار اشتياق _موسوعة اشتياق المضيئة
الدكتور خليل البدوي

ذكر
تاريخ التسجيل : 28/08/2015
عدد المشاركات : 107926
نقاط التقييم : 126255
بلد الاقامة : عراقي مقيم في الاردن
علم بلدك : علم العراق
الثور

فدوى طوقان ورسالة "اللحن الأخير"..  Empty
مُساهمةموضوع: رد: فدوى طوقان ورسالة "اللحن الأخير"..    فدوى طوقان ورسالة "اللحن الأخير"..  Emptyالأربعاء ديسمبر 09, 2015 2:39 pm

الأستاذة الجليلة نوره الدوسري
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
فدوى طوقان ورسالة "اللحن الأخير"..
استعرض الموضوع التالي استعرض الموضوع السابق الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» الشاعره فدوى طوقان
» كــلــمــا نــاديـتـنــي / فدوى طوقان
» فدوى طوقان >> رجاءً لا تمُتْ
»  فدوى طوقان شاعرة فلسطين
» نزار قباني ...ورسالة من تحت الماء

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات اشتياق أسسها الراحل مصطفى الشبوط في يوم الجمعة30نوفمبرعام2007 :: اقسام الثقافة والتاريخ والادب العالمي :: اشتياق التاريخ والتراث وسيرة حياة المشاهير-
أفضل 10 أعضاء في هذا المنتدى
المهندس محمد فرج - 123667
فدوى طوقان ورسالة "اللحن الأخير"..  Vote_rcap1فدوى طوقان ورسالة "اللحن الأخير"..  Voting_bar1فدوى طوقان ورسالة "اللحن الأخير"..  Vote_lcap1 
الدكتور خليل البدوي - 107926
فدوى طوقان ورسالة "اللحن الأخير"..  Vote_rcap1فدوى طوقان ورسالة "اللحن الأخير"..  Voting_bar1فدوى طوقان ورسالة "اللحن الأخير"..  Vote_lcap1 
احلام شحاتة - 61741
فدوى طوقان ورسالة "اللحن الأخير"..  Vote_rcap1فدوى طوقان ورسالة "اللحن الأخير"..  Voting_bar1فدوى طوقان ورسالة "اللحن الأخير"..  Vote_lcap1 
ايمان الساكت - 56084
فدوى طوقان ورسالة "اللحن الأخير"..  Vote_rcap1فدوى طوقان ورسالة "اللحن الأخير"..  Voting_bar1فدوى طوقان ورسالة "اللحن الأخير"..  Vote_lcap1 
باسند - 51660
فدوى طوقان ورسالة "اللحن الأخير"..  Vote_rcap1فدوى طوقان ورسالة "اللحن الأخير"..  Voting_bar1فدوى طوقان ورسالة "اللحن الأخير"..  Vote_lcap1 
مصطفى الشبوط - 17651
فدوى طوقان ورسالة "اللحن الأخير"..  Vote_rcap1فدوى طوقان ورسالة "اللحن الأخير"..  Voting_bar1فدوى طوقان ورسالة "اللحن الأخير"..  Vote_lcap1 
همسة قلم - 13947
فدوى طوقان ورسالة "اللحن الأخير"..  Vote_rcap1فدوى طوقان ورسالة "اللحن الأخير"..  Voting_bar1فدوى طوقان ورسالة "اللحن الأخير"..  Vote_lcap1 
نوره الدوسري - 8809
فدوى طوقان ورسالة "اللحن الأخير"..  Vote_rcap1فدوى طوقان ورسالة "اللحن الأخير"..  Voting_bar1فدوى طوقان ورسالة "اللحن الأخير"..  Vote_lcap1 
احاسيس - 7517
فدوى طوقان ورسالة "اللحن الأخير"..  Vote_rcap1فدوى طوقان ورسالة "اللحن الأخير"..  Voting_bar1فدوى طوقان ورسالة "اللحن الأخير"..  Vote_lcap1 
كاميليا - 7369
فدوى طوقان ورسالة "اللحن الأخير"..  Vote_rcap1فدوى طوقان ورسالة "اللحن الأخير"..  Voting_bar1فدوى طوقان ورسالة "اللحن الأخير"..  Vote_lcap1