منتديات اشتياق أسسها الراحل مصطفى الشبوط في يوم الجمعة30نوفمبرعام2007

تجمع انساني،اسلامي،ثقافي،ادبي،اجتماعي،تقني،رياضي،فني وترفيهي عام
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

آخر المواضيع
الموضوع
تاريخ إرسال المشاركة
بواسطة
كل عام وانتم بخيربمناسبة عيد الفطرالمبارك
عبارات عن القرآن في رمضان
كل عام وانتم بخير بمناسبة راس السنة الهجرية
في انتظار الزائر الكريم محمد محضار
من أي أنواع العبادة تعتبر قراءة القران
ما أبرز الفوائد من “ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله”
كيف بين النبي امور الدين من خلال حديث جبريل المشهور
أحاديث عن الصبر والحلم والعفو والوفاء بالعهد
أقوال خلدها التاريخ عن الوفاء
الخميس أبريل 11, 2024 10:27 pm
الجمعة مارس 01, 2024 10:21 pm
الثلاثاء يوليو 18, 2023 10:57 pm
الجمعة يوليو 14, 2023 12:05 am
الخميس أبريل 27, 2023 10:40 pm
الخميس أبريل 27, 2023 10:37 pm
الخميس أبريل 27, 2023 10:33 pm
الخميس أبريل 27, 2023 10:30 pm
الخميس أبريل 27, 2023 10:28 pm










شاطر
 

 زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي )

استعرض الموضوع التالي استعرض الموضوع السابق اذهب الى الأسفل 
انتقل الى الصفحة : الصفحة السابقة  1, 2, 3  الصفحة التالية
كاتب الموضوعرسالة
همسة قلم
اديبة


انثى
تاريخ التسجيل : 17/11/2013
عدد المشاركات : 13947
نقاط التقييم : 14510
بلد الاقامة : لبنان
علم بلدك : Lebanon لبنان

زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي )   زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Emptyالأحد ديسمبر 08, 2013 10:02 am

خطة دخول الأندلس

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

في سنة (136هـ=753م) بدأ عبد الرحمن بن معاوية (عبد الرحمن الداخل) يُعِدُّ العُدَّةَ لدخول الأندلس، فعمل على الآتي:
أولاً: أرسل مولاه بدرًا إلى الأندلس لدراسة الموقف، ومعرفة القوى المؤثِّرة في الحُكم فيها، فلقد كانت الأندلس في تنازع بين اليمنية –وزعيمهم أبو الصباح اليحصبي- والقيسية -وزعيمهم أبو جوشن الصميل بن حاتم- وهم الذين كانوا عمادًا لدولة عبد الرحمن بن يوسف الفهري[1].

ثانيًا: راسل كلَّ محبِّي الدولة الأموية في أرض الأندلس بعد أن علِمَهم من مولاه بدر[2]، والحقُّ أن كثيرًا من الناس في عهد الدولة الأموية وفي غيرها كانوا يُحِبُّون الأمويين كثيرًا، فمنذ ولاية معاوية بن أبي سفيان t على الشام في خلافة عمر بن الخطاب t، وفي خلافة عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب-رضي الله عنهم جميعا، والمسلمون في أقطار الدولة الإسلامية يحبُّون بني أمية حبًّا شديدًا، فقد اشتهر بنو أمية على مَرِّ العصور بالسخاء والسياسة والحكمة، واكتساب ثقة الناس وحُسن معاملتهم، والجهاد في سبيل الله، ونشر الدين، وفتح البلاد، فكان لبني أمية داخل بلاد الأندلس الكثير من المؤيدين، والكثير من المحبين حتى من غير بني أمية من القبائل المختلفة.

ثالثًا: راسل كلَّ الأمويين في الأندلس يعرض عليهم فكرته، وأنه يعزم على دخول الأندلس ويطلب معونتهم ومددهم[3].

كانت الخطوة المؤثِّرة التي نجح فيها بدر[4] –مولى عبد الرحمن الداخل- هو وصوله إلى موالي بني أمية في الأندلس، وشيخهم أبو عثمان، ومن خلالهم حاول التحالف مع القيسية، إلاَّ أن الصميل بن حاتم -وقد كان زعيم القيسية الذين كانوا عماد الفهري- عَبَّر بوضوح عن مخاوفه من وجود أمير أموي في البلاد، فوَضْع القيسية حينئذٍ لن يكون كما هو في ظلِّ الفهري الذي يستطيعون أن يأخذوا منه ويَرُدُّوا عليه[5]. فذهبوا إلى اليمنية فرضوا وتمَّ لهم الأمر.

وإذًا، فقد نجح بدر في مهمته، فأرسل رسولاً إلى عبد الرحمن يقول له: إن الوضع أصبح جاهزًا لاستقبالك هناك. وحينما سأله عن اسمه، قال: تمام. قال: وما كنيتك؟ قال: أبو غالب. فقال: الله أكبر! الآن تمَّ أمرنا، وغَلَبْنَا بحول الله تعالى وقوته[6]. وبدأ يُعِدُّ العُدَّةَ، ويجهِّز السفينة التي أخذته منفردًا إلى بلاد الأندلس.

عبد الرحمن الداخل في الأندلس

نزل عبد الرحمن الداخل –رحمه الله- على ساحل الأندلس بمفرده، واستقبله هناك مولاه بدر، وكان يحكم الأندلس في ذلك الوقت يوسف بن عبد الرحمن الفهري، وكالعادة كان في الشمال يقمع ثورةً من الثورات[7].

وبمجرَّد أن دخل عبد الرحمن بن معاوية الأندلس بدأ يُجَمِّع الناس من حوله؛ محبِّي الدولة الأموية، والأمازيغ (البربر)، وبعض القبائل المعارضة ليوسف بن عبد الرحمن الفهري، كما كان قد وصلت إلى الأندلس فلول من الأمويين الهاربين، إلى جانب التحالف المأخوذ مع اليمنية.

كان على رأس اليمنيين في ذلك الوقت أبو الصباح اليحصبي، وكان المقرُّ الرئيس لهم في إِشْبِيلِيَة، وهي المدينة الكبيرة التي كانت تُعَدُّ حاضرة من حواضر الإسلام في ذلك الوقت، فذهب عبد الرحمن بن معاوية بنفسه إلى إِشْبِيلِيَة، واجتمع طويلاً مع أبي الصباح اليحصبي، فبايعه أبو الصباح[8].

وقبل القتال أرسل عبد الرحمن بن معاوية عدَّة رسائل إلى يوسف بن عبد الرحمن الفهري يطلب وُدَّه، وأن يُسَلِّم له الإمارة، ويكون الفهري رجلاً من رجاله في بلاد الأندلس، بحُكْمِ أنه حفيد هشام بن عبد الملك[9]، لكن يوسف الفهري رفض ذلك، وجهَّز جيشًا وجاء ليحارب عبد الرحمن بن معاوية ومَنْ معه.

موقعة المصارة

من المؤسف حقًّا أن يلتقي المسلمون بسيوفهم، لكن كثرة الثورات وكثرة الفتن والانقلابات جعلت الحلَّ العسكري هو الحلَّ الحتمي في ذلك الوقت؛ ففي (ذي الحجة 138هـ=مايو 756م) وفي موقعة كبيرة عُرِفت في التاريخ باسم موقعة المصارة، دار قتال شرس بين يوسف بن عبد الرحمن الفهري من جهة ومعه القيسية، وعبد الرحمن بن معاوية الذي يعتمد في الأساس على اليمنيين من جهة أخرى[10].
وقبل القتال كان أبو الصباح اليحصبي (رئيس اليمنيين) قد سمع بعض المقولات من اليمنيين تقول: إن عبد الرحمن بن معاوية غريب عن البلاد، ثم إن معه فرسًا عظيمًا أشهب، فإن حدثت هزيمة فسيهرب من ساحة القتال، ويتركنا وحدنا للفهريين.

وقد وصلت عبدَ الرحمن بن معاوية تلك المقولة، فقام وفي ذكاءٍ شديد يفوق سنَّ الخامسة والعشرين، وذهب بنفسه إلى أبي الصباح اليحصبي، وقال له: إن جوادي هذا سريع الحركة ولا يمكِّنُنِي من الرمي، فإن أردت أن تأخذه وتعطيَني بغلتك فعلت. فأعطاه الجواد السريع وأخذ منه البغلة يُقاتل عليها، وحينئذٍ قال اليمنيون: إن هذا ليس بمسلك رجل يُريد الهرب، إنما هو مسلك مَنْ يُريد الموت في ساحة المعركة[11].
ودارت معركة قوية، انتصر فيها عبد الرحمن بن معاوية، وفَرَّ يوسف الفهري[12].

عبد الرحمن الداخل وأمارات نجابة وعلم وذكاء

كانت عادة المحاربين أن يَتَّبع الجيشُ المنتصرُ فلول المنهزمين والفارِّين؛ ليقتلهم ويقضي عليهم؛ ومن ثَمَّ يقضي على ثورتهم، وحين بدأ اليمنيون يُجَهِّزون أنفسَهم ليَتَتَبَّعوا جيش يوسف الفهري منعهم عبد الرحمن بن معاوية، وقال لهم قولةً ظلَّت تتردَّدُ في أصداء التاريخ، أمارةً على علمه ونبوغه، وفهمٍ صحيح، وفكرٍ صائب في تقدير الأمور؛ قال لهم: «لا تستأصلوا شأفةَ أعداءٍ ترجون صداقتهم، واستبقوهم لأشدّ عداوة منهم»[13].

يُريد –رحمه الله- أن هؤلاء الذين يقاتلوننا اليوم سيُصبحون غدًا من جنودنا؛ ومن ثَمَّ عونًا على أعدائنا من النصارى وغيرهم في ليون وفرنسا وغيرها، فهكذا –رحمه الله- كان ذا نظرة واسعة جدًّا تشمل كل بلاد الأندلس، بل تشمل كل أوربا، بل إني أراه بذلك التفكير يستطيع أن يُعِيد مُلك الشام بعد ذلك -أيضًا- إلى أملاك الأمويين؛ وذلك لما يلي:
أولاً: ليس في قلبه غلٌّ ولا حقدٌ على مَنْ كان حريصًا على قتله منذ سويعاتٍ قلائل.
ثانيًا: الفهم العميق للعدوِّ الحقيقي وهو النصارى في الشمال.
ثالثًا: رغم كونه لم يتجاوز الخامسة والعشرين إلاَّ أنه كان يمتلك فهمًا واعيًا، وإدراكًا صحيحًا، وفقهًا وعلمًا وسعة اطلاع، عَلِمَ به أنه إن جاز له أن يُقَاتِلهم لتوحيد البلاد تحت راية واحدة، فهو في الوقت ذاته لا يجوز له شرعًا أن يتتبعهم، أو أن يقتل الفارِّين منهم، ولا أن يُجْهِزَ على جريحهم، ولا أن يقتل أسيرهم؛ لأن حكمهم حكم الباغين في الإسلام وليس حكمَ المشركين، وحكم الباغي في الإسلام أنه لا يُتَتَبَّع الفارُّ منهم، ولا يُقتَلُ أسيرُه، ولا يُجهَزُ على جريحه، بل ولا تُؤخَذ منه الغنائم[14].

وكانت الهزيمة بالغة، حتى إن عبد الرحمن الداخل لم يجد أحدًا في طريقه إلى قصر الحكم في قُرْطُبَة، وسيطر جنوده على ما في يد جنود يوسف من الأسلحة والمتاع وما إلى ذلك، إلاَّ أن بعض الناس حاول انتهاب قصر يوسف الفهري نفسه وسبي أولاده وحريمه، فسارع وطرد الناس، وكسا من عَرِي من أولاد يوسف، وردَّ ما قدر على ردِّه، وهنا غضبت اليمنية وساءهم ذلك حين لم يستطيعوا أن ينتقموا من يوسف في أولاده ونسائه، وداخلهم أن عبد الرحمن الداخل تعصب لنسبه المضري[15].
وأقام عبد الرحمن بن معاوية الداخل بظاهر قُرْطُبَة ثلاثة أيام، حتى يترك الفرصة لأهل يوسف الفهري أن يجمعوا أمرهم وأن يخرحوا بأمان، فكان هذا بداية عفافه وحسن سيرته في الأندلس[16].

بين عبد الرحمن الداخل وأبي الصباح اليحصبي

ومن المفارقات أنه بعد انتهاء موقعة المصارة وحين لم يرضَ عبد الرحمن بانتهاب قصر يوسف الفهري ولا سبي أولاده، غضب أبو الصباح اليحصبي زعيم اليمنية، وفكر في أن ينقلب على عبد الرحمن بن معاوية نفسه، وكان مما قال: «يا معشر يمن؛ هل لكم إلى فتحين في يوم، قد فرغنا من يوسف وصميل، فلنقتل هذا الفتى المقدام ابن معاوية؛ فيصير الأمر لنا، نقدِّم عليه رجلاً منا، ونحل عنه هذه المضرية». فلم يجبه أحد لذلك[17].

ووصلت هذه الأنباء إلى عبد الرحمن بن معاوية، فما كان منه إلاَّ أن أسرَّها في نفسه، ولم يُبْدِها لهم، ولم يُعلِمْهم أنه يعلم ما يُضْمِرُونه له؛ لكنه أصبح على حذرٍ شديدٍ من أبي الصباح اليحصبي[18].

لم يُرِدْ عبد الرحمن بن معاوية أن يُحدث خللاً في الصفِّ المسلم في هذه الأوقات، ولم يُرِدْ أن يُحْدِثَ خللاً بين الأمويين ومحبِّي الدولة الأموية وبين اليمنيين، في ذلك الوقت المليء بالثورات والمعارك الداخلية؛ إنما كان كلُّ هَمِّه هو تجميع الناس ثم حرب النصارى بعد ذلك، وبالفعل وبعد إحدى عشرة سنة من هذه الأحداث عزل عبدُ الرحمنِ أبا الصباح اليحصبي عن مكانه، واستطاع أن يمتلك زمام الأمور كلها في الأندلس [19].
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
همسة قلم
اديبة


انثى
تاريخ التسجيل : 17/11/2013
عدد المشاركات : 13947
نقاط التقييم : 14510
بلد الاقامة : لبنان
علم بلدك : Lebanon لبنان

زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي )   زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Emptyالأحد ديسمبر 08, 2013 10:02 am

عبد الرحمن الداخل

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

بعد انتصار عبد الرحمن بن معاوية في موقعة المصارة ودخوله قُرْطُبَة عاصمة الأندلس في ذلك الوقت، لُقِّب عبدُ الرحمن بن معاوية بعبد الرحمن الداخل؛ لأنه أول من دخل من بني أمية قرطبة حاكمًا[1]، فكان له الكثير من الأيادي البيضاء على الإسلام في بلاد الأندلس، وعُرِفت الفترة التي تلت دخوله قُرْطُبَة بفترة الإمارة الأموية، وتبدأ من سنة 138هـ=755م وتنتهي سنة 316هـ=928م، وسُمِّيت إمارة لأنها أصبحت منفصلة عن الخلافة الإسلامية؛ سواء كانت في عصر الدولة العباسية أو ما تلاها بعد ذلك من العصور إلى آخر عهود الأندلس.

وبدأ عبد الرحمن الداخل بعد ذلك يُنَظِّم أمور الأندلس، وكانت هناك ثورات في كل مكان من أرض الأندلس، ورث بعضها وبعضها الآخر ثار عليه، وبصبر شديد وأناة عجيبة، أخذ عبد الرحمن الداخل يُرَوِّض هذه الثورات الواحدة تلو الأخرى، وتعامل مع كلٍّ منها بما يتوافق معها؛ فاستمال مَنِ استطاع من الثائرين، وحارب الباقين.

ففي فترة حُكمه -التي امتدَّت أربعة وثلاثين عامًا متصلة من سنة 138هـ=755م وحتى سنة 172هـ=788م [2]- قامت عليه أكثر من خمس وعشرين ثورة، وهو يقمعها بنجاح عجيبٍ الواحدة تلو الأخرى، ثم ترك البلاد وهي في فترة من أقوى فترات الأندلس في التاريخ بصفة عامة.

الثورات التي قامت ضد عبد الرحمن الداخل

تَعَرَّضَتِ الدولة الأموية في الأندلس في عهد عبد الرحمن الداخل لعدد كبير من الثورات، تزيد على خمس وعشرين ثورة تغلَّب عليها جميعًا؛ ومن هذه الثورات:
ثورة القاسم بن يوسف بن عبد الرحمن الفهري ورزق بن النعمان الغساني، وثورة يوسف بن عبد الرحمن الفهري سنة 143هـ=760م [3]، وثورة هشام بن عروة الفهري سنة 144هـ=761م [4]، وثورات أخرى تتابعت عليه من سنة 144هـ إلى سنة 146هـ، وثورة العلاء بن مغيث اليحصبي سنة 146هـ=763م [5]، وثورة سعيد اليحصبي اليماني سنة 149هـ=766م [6]، وثورة أبي الصباح حيِّ بن يحيى اليحصبي سنة 149هـ=766م [7]، وثورة البربر في الأندلس بزعامة شقيا بن عبد الواحد المكناسي سنة 151هـ=768م [8]، وثورة اليمانية في إِشْبِيلِيَة بزعامة عبد الغافر اليحصبي وحيوة بن ملامس الحضرمي سنة 156هـ=773م [9]، وثورة سليمان بن يقظان في بَرْشُلُونَة سنة 157هـ=774م [10]، وثورة عبد الرحمن بن حبيب الفهري سنة 161هـ=777م [11]، وثورة الحسين بن يحيى الأنصاري سنة 166هـ=782م [12]، وثورة محمد بن يوسف الفهري سنة 168هـ=784م [13]، وثورات أخرى كثيرة قامت ضده، ولكنه ما لبث أن أخمدها كلها وقضى عليها.

صقر قريش وثورة العباسيين

ولن نقف إلاَّ أمام ثورة واحدة فقط من هذه الثورات الخمس والعشرين؛ وذلك لأهميتها الشديدة في فهم هذا الانفصال الذي حدث للأندلس عن الخلافة العباسية، وهذه الثورة حدثت في سنة 146هـ=763م؛ أي: بعد حوالي ثمان سنوات من تولِّي عبد الرحمن الداخل حكم الأندلس، وقام بها رجل يُدعى العلاء بن مغيث الحضرمي[14].

وكان أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي الثاني، والمؤسس الحقيقي للخلافة العباسية بعد أبي العباس السفاح، قد رَاسَلَ العلاء بن مغيث الحضرمي ليقتل عبد الرحمن بن معاوية؛ ومن ثَمَّ يضمُّ الأندلس إلى أملاك الخلافة العباسية[15].

وهذا يُعَدُّ أمرًا طبيعيًّا بالنسبة لأبي جعفر المنصور؛ إذ يُريد ضمَّ بلاد الأندلس -وهو البلد الوحيد المنشقُّ من بلاد المسلمين- إلى حظيرة الخلافة العباسية الكبيرة، فجاء العلاء بن مغيث الحضرمي من بلاد المغرب العربي وعبر إلى بلاد الأندلس، ثم قام بثورة يدعو فيها للعباسيين، ويرفع الراية السوداء التي أرسلها له الخليفة أبو جعفر المنصور[16].

ولم يتوانَ عبد الرحمن الداخل عن محاربته، فقامت لذلك حرب كبيرة بين العلاء بن مغيث الحضرمي وعبد الرحمن الداخل، وانتصر عبد الرحمن الداخل كعادته في قمع الثورات، ووصلت الأنباء إلى أبي جعفر المنصور -وكان في الحجِّ- بأن عبد الرحمن الداخل قد هزم جيش العلاء الحضرمي هزيمة منكرة، وأن العلاء بن مغيث الحضرمي قد قُتِل.
وهنا قال أبو جعفر المنصور: قَتَلْنَا هذا البائس. يعني العلاء بن مغيث الحضرمي؛ يُريد أنه قتله بتكليفه إيَّاه بحرب عبد الرحمن الداخل، ثم قال: ما لنا في هذا الفتى من مطمع، يعني: عبد الرحمن الداخل، الحمدُ لله الذي جعل بيننا وبينه البحر[17].

وكفَّ أبو جعفر من ساعتها عن التفكير في استعادة بلاد الأندلس.

صقر قريش

يعد أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي هو الذي سمَّى عبد الرحمن الداخل بصقر قريش، وهو اللقب الذي اشتُهِرَ به بعد ذلك.

فقد ذُكِرَ أن أبا جعفر المنصور قال يومًا لبعض جلسائه: أخبروني: مَنْ صقر قريش من الملوك؟ قالوا: ذاك أمير المؤمنين الذي راضَ الملوك، وسكَّن الزلازل، وأباد الأعداء، وحسم الأدواء.
قال: ما قلتم شيئًا!
قالوا: فمعاوية (معاوية بن أبي سفيان)؟ قال: لا.
قالوا: فعبد الملك بن مروان؟ قال: ما قلتم شيئًا.
قالوا: يا أمير المؤمنين؛ فمَنْ هو؟
قال: صقر قريش عبد الرحمن بن معاوية، الذي عبر البحر، وقطع القفر، ودخل بلدًا أعجميًّا، منفردًا بنفسه؛ فمصَّر الأمصار، وجنَّد الأجناد، ودوَّن الدواوين، وأقام ملكًا عظيمًا بعد انقطاعه، بحسن تدبيره، وشدَّة شكيمته، إنَّ معاوية نهض بمركب حمله عليه عمر وعثمان، وذلَّلا له صعبه؛ وعبدُ الملك ببيعة أُبْرِمَ عقدها؛ وأمير المؤمنين بطلب عِتْرَته، واجتماع شيعته، وعبد الرحمن منفردٌ بنفسه، مؤيَّدٌ برأيه، مستصحبٌ لعزمه، وطَّد الخلافة بالأندلس، وافتتح الثغور، وقتل المارقين، وأذلَّ الجبابرة الثائرين.
فقال الجميع: صدقتَ والله! يا أمير المؤمنين[18].

وهكذا كان أبو جعفر المنصور العباسي معجبًا جدًّا بعبد الرحمن الداخل، وهو ما يمكن أن نُسَمِّيَه إعجاب اضطرار، أو هو إعجاب فرض نفسه عليه.

عبد الرحمن الداخل والخلافة العباسية:

تُثير قضية هذا الانفصال الطويل الذي دام بين الأندلس وبين الخلافة العباسية على مرِّ العصور عدَّة تساؤلات في نفوس جميع المسلمين؛ فلماذا ينفصل عبد الرحمن الداخل -الرجل الورع التقيُّ الذي أقام دولة قوية في بلاد الأندلس- بالكلية عن الخلافة العباسية؟!

ووقفة عادلة مع هذا الحدث وتحليله واستجلاء غوامضه نستطيع القول بأن الدولة العباسية قد أخطأت خطأ فاحشًا بحقِّ الأمويين؛ وذلك بقتلهم وتَتَبُّعهم في البلاد بهذه الصورة الوحشية، فإذا كان الأمويون في آخر عهدهم قد فسدوا واستحقُّوا الاستبدال فليكن تغييرُهم، وَلْيَكُن هذا الاستبدال، ولكن على نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بلا قتل وسفك للدماء ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.

كان من المفترض على الدولة العباسية القائمة على أنقاض الأمويين أن تحتوي هذه الطاقات الأموية، وتعمل على توظيفها لخدمة الإسلام والمسلمين، بدلاً من إجبارهم على خلق جيب من الجيوب في صُقْع بعيد من أصقاع البلاد الإسلامية في الأندلس أو في غيرها من بلاد المسلمين.

فهذا عبد الرحمن الداخل الذي نتحدَّث عنه يصيح في اليمنيين بعد موقعة المصارة، ويقول لهم حين أرادوا أن يَتَتَبَّعُوا الفارِّين من جيش يوسف بن عبد الرحمن الفهري: لا تستأصلوا شأفة أعداء ترجون صداقتهم[19]. ليضمَّهم إلى جيشه بعد ذلك، فهكذا كان يجب على العباسيين أن يفعلوا، ويتركوا الأمويين يدخلون تحت عباءتهم؛ حتى يستطيعوا أن يكونوا لهم جندًا وعونًا لا نِدًّا ومنافسًا، كما رأينا النتيجة بأعيننا.

عفو الرسول صلى الله عليه وسلم مع كفار مكة

وهذا -أيضًا- المثلُ الأعلى والقدوةُ الحسنة رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، ماذا فعل بعد أن دخل مكة، وكان أهلها قد آذوه هو وأصحابه وطردوهم منها؟! وماذا قال عن أبي سفيان وهو مَنْ هو قبل ذلك؟! ما كان منه إلاَّ أن دخل متواضعًا، وقال: «مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ»[20]. أليس أبو سفيان هذا هو زعيم الكفر وزعيم المشركين في أُحُدٍ والأحزاب؟! فلماذا إذًا يقول عنه مثل هذا؟! إنما كان يُريد أن يخطب وُدَّه، ويضمَّه إلى صفِّه، وبالمثل فعل الرسول مع رءوس الكفر في مكة حين قال لهم: «مَا تَظُنُّونَ أَنِّي فَاعِلٌ بِكُمْ؟» فقالوا: خيرًا، أخٌ كريمٌ وابنُ أخٍ كريم. فرَدَّ عليهم بمقولته التي وعاها التاريخ: «اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ»[21].

وليس هذا من كرم الأخلاق فحسب، لكنه -أيضًا- من فنِّ معاملة الأعداء، وحُسْنِ السياسة والإدارة، فَلْنتخيَّلْ ماذا سيكون الموقف لو أن الرسول صلى الله عليه وسلم أقام الحَدَّ وقطع رءوس هؤلاء الذين حاربوا دين الله سنواتٍ وسنواتٍ؟! بلا شكٍّ كان سيُحدِث جيبًا من الجيوب داخل مكة، وكان أهل مكة سينتهزون الفرصة تلو الأخرى للانقلاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وللانفصال عن الدولة الإسلامية.

لكن العجب العُجَاب كان في نتيجة ذلك بعد وفاته صلى الله عليه وسلم ، فقد ارتدَّت جزيرة العرب جميعها، ولم يبقَ على الإسلام منها إلاَّ المدينة ومكة والطائف، وقرية صغيرة تُسَمَّى هجر، ثلاث مدن وقرية واحدة فقط؛ أي أن مكة التي لم تدخل في الإسلام إلاَّ قبل وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بثلاث سنوات فقط كانت في تعداد هذه المدن القليلة التي ثبتت على الإسلام ولم ترتدّ، وبلا شكٍّ فهو أثر فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لم يَنْسَوْه، فكان أن استُوعِبوا في داخل الدولة الإسلامية، وثبتوا وقت الزَّيْغِ.

وكان هذا ما سيتكرَّر لو فعل العباسيون مثله واستوعبوا الأُمَوِيين في داخل الدولة العباسية؛ ولأنهم لم يفعلوا ذلك فكان أن اضْطُرَّ مَنْ نجا من الأمويين للذهاب إلى هذه البلاد والانشقاق بها عن دولة المسلمين.

وواقع الأمر يقول: إنه لو كان عبد الرحمن الداخل يضمن أن العلاء بن مغيث الحضرمي سوف يَعفو عنه ويُعطيه إمارة الأندلس، أو أي إمارة أخرى من إمارات الدولة العباسية إذا سَلَّم الأمرَ إليه فلربما كان يفعل، لكنه كان يعلم أنه لو قبض عليه لقتله في الحال هو ومَنْ معه من الأمويين إن كانوا مرشَّحين للخلافة، وهذا بالطبع ما دفعه لأن يبقى على عهده من الجهاد ضد الدولة العباسية، وهو أمر مؤلم جدًّا، وحلقة مفرغة دخل فيها المسلمون نتيجة العنف الشديد من قِبَلِ الدولة العباسية في بدء عهدها، ولا شكَّ أن الدولة العباسية قد غيَّرت كثيرًا من نهجها الذي اتَّبَعَتْهُ أولاً، وتولَّى بعد ذلك رجالٌ كثيرون حافظوا على النهج الإسلامي، بل إن أبا جعفر المنصور نفسه في آخر عهده كان قد غيَّر ما بدأه تمامًا، لكن كانت هناك قسوة شديدة في البَدْء؛ بهدف أن يستتبَّ لهم الأمر في البلاد، فمَنْ يحاول الالتفاف على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم فستكون العاقبة دائمًا هي الخسران، وهكذا كان فقْدُ المسلمين لأرواحٍ طاهرةٍ ودماءٍ كثيرةٍ غزيرة وطاقاتٍ متعددةٍ، بل فقدوا الأندلس فلم تَعُدْ مددًا للمسلمين طيلة عهدها؛ فالعنف في غير محلِّه لا يُورِثُ إلاَّ عنفًا، وطريق الدماء لا يُورث إلاَّ الدماء، والسبل كثيرة، ولكن ليس إلاَّ من سبيل واحد فقط؛ إنه الطريق المستقيم طريق الله : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [الأنعام: 153].

وقفة مع عبد الرحمن الداخل في قضائه على الثائرين

ذكرنا -فيما سبق- أنه في خلال الأربع والثلاثين سنةً الممتدَّة من بداية حكم عبد الرحمن الداخل وحتى نهايته كان هناك أكثر من خمس وعشرين ثورةً في كل أنحاء الأندلس، وذكرنا -أيضًا- كيف روَّض بعضها وقمع غيرها بنجاح الواحدة تلو الأخرى، والتي كان من أهمِّها ثورة العباسيين التي قام بها العلاء بن مغيث الحضرمي، وكيف تَمَّ القضاء عليها.

وهنا يحق لنا أن نتساءل: هل يجوز لعبد الرحمن الداخل أن يُقاتِل الثائرين وإن كانوا من المسلمين؟!
وحقيقة الأمر أن موقفه هذا في قتال الثائرين داخل أرض الأندلس لا غبار عليه؛ لأن الجميع كانوا قد اتفقوا عليه أميرًا للبلاد، وقد جاء عن رسول الله أنه قال: «مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ أي: مجتمع عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ فَأَرَادَ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ، أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ فَاقْتُلُوهُ»[22].

ومن هنا فقد كان موقف عبد الرحمن الداخل صارمًا مع الثوار؛ وذلك لقمع الانقلابات المتكرِّرَة، والتي تُضعِف من جانب الأمن والاستقرار في البلاد، إلاَّ أنه من الإنصاف أن نذكر أنه –رحمه الله-كان دائمًا ما يبدأ بالاستمالة والسلم وعرض المصالحة، ويكره الحرب إلاَّ إذا كان مضطرًا.

وبلا شكٍّ فإن ثمن هذه الثورات كان غاليًا جدًّا؛ ففي السنوات الأربع من بداية دخول عبد الرحمن بن معاوية إلى الأندلس 138-142هـ=755-759م سقطت كل مدن المسلمين التي كانت في فرنسا، وذلك بعد أن حكمها الإسلام طيلة سبعٍ وأربعين سنةً متصلة، منذ أيام موسى بن نصير / وحتى زمن سقوطها هذا، وهكذا سُنن الله الثوابت، فما أن شُغِل المسلمون بأنفسهم إلاَّ وكان التقلُّص والهزيمة أمرًا حتميًّا.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
همسة قلم
اديبة


انثى
تاريخ التسجيل : 17/11/2013
عدد المشاركات : 13947
نقاط التقييم : 14510
بلد الاقامة : لبنان
علم بلدك : Lebanon لبنان

زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي )   زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Emptyالأحد ديسمبر 08, 2013 3:08 pm

[b][b][b][b][b][b][b]عبد الرحمن الداخل.. الأمير الفذُّ

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

لولا عبد الرحمن الداخل لانتهى الإسلام من الأندلس بالكلية، هكذا قال المؤرِّخون عن عبد الرحمن الداخل، وإنَّا لتعلونا الدهشة ويتملَّكنا العجب حين نعلم أن عمره حينذاك لم يتجاوز الخامسة والعشرين عامًا، أي في سنِّ خريج الجامعة في عصرنا.

مَلَكٌ من السماء، أم ماذا هو؟! لن نذهب بعيدًا، وسنترك الحديث عنه إلى ابن حيَّان الأندلسي، الذي يقول مُستَعرِضًا بعضًا من صفات عبد الرحمن الداخل:
«كان عبد الرحمن راجح الحلم، راسخ العلم، ثاقب الفهم، كثير الحزم، نافذ العزم، بريئًا من العجز، سريع النهضة، متصل الحركة، لا يخلد إلى راحة، ولا يسكن إلى دَعَة، ولا يَكِلُ الأمور إلى غيره، ثم لا ينفرد في إبرامها برأيه، شجاعًا مقدامًا، بعيد الْغَوْرِ، شديد الحدَّة، قليل الطمأنينة، بليغًا مفوَّهًا، شاعرًا محسنًا، سمحًا سخيًّا، طلق اللسان، وكان يلبس البياض ويعتمُّ به ويُؤْثِره، وكان قد أُعْطِيَ هيبة من وَلِيِّه وعدوِّه، وكان يحضر الجنائز، ويُصَلِّي عليها، ويُصَلِّي بالناس إذا كان حاضرًا الجُمَع والأعياد، ويخطب على المنبر، ويعود المرضى»[1].

شخصية تُشخِص الأبصار وتَبْهَر العقول، فمع رجاحة عقله وسعة علمه كان لا ينفرد برأيه، فإذا اجتمعت الشورى على رأي كان نافذ العزم في تطبيقه –رحمه الله، ومع شدَّته وحزمه وجهاده وقوَّته كان –رحمه الله- شاعرًا محسنًا رقيقًا مُرهَف المشاعر.

ومع هيبته عند أعدائه وأوليائه إلاَّ أنه كان يتبسَّط مع الرعية، ويعود مرضاهم، ويشهد جنائزهم، ويُصَلِّي بهم ومعهم، ومع كونه شديد الحذر قليل الطمأنينة، لم يمنعه ذلك من معاملة الناس والاختلاط بهم دون حرَّاس، حتى خاطبه المقرَّبُون في ذلك وأشاروا عليه ألاَّ يخرج في أوساط الناس حتى لا يتبسَّطوا معه[2].
ونستطيع أن نفهم شخصيته بصورة أوضح حين نعلم كيف كان في معاملته للناس، فقد جاء أن أحد الناس طلب منه حاجةً أمام أعين الحاضرين، فقضاها له، ثم قال له: «إذا أَلَمَّ بك خطب أو حزبك أمرٌ فارفعه إلينا في رقعة، لا تعدوك كيما نستر عليك خلتك، ونكف شمات العدوِّ عنك بعد رفعك لها إلى مالكك ومالكنا -عزَّ وجهه- بإخلاص الدعاء وصدق النية»[3].

إنها لَتربية ربَّانية لشعبه؛ فهو يُريد –رحمه الله- أن يربط الناس بخالقهم، يُريد أن يُعَلِّمهم أن يرفعوا حاجتهم إليه أولاً، يُريد أن يُعَلِّمهم أنه يملكه ويملكهم جميعًا، ثم مراعاةً لعواطف النفس الداخلية، وحفظًا لماء وجه الرعية عند السؤال قال له: فارفع إلينا حاجتك في رقعة كي نستر عليك ولا يشمت أحدٌ فيك.

وها هو ذا –رحمه الله- لما انتصر على ثائر سرقسطة الحسين الأنصاري، «أقبل خواصُّه يُهَنِّئُونه، فجرى بينهم أحدُ مَنْ لا يُؤْبَهُ به من الجند، فهنَّأه بصوت عال. فقال: والله! لولا أن هذا اليوم يوم أسبغ عليَّ فيه النعمة مَنْ هو فوقي فأوجب عليَّ ذلك أن أُنْعِمَ فيه على مَنْ هو دوني لأصلينك ما تعرضت له من سوء النكال، مَنْ تكون حتى تُقبل مهنِّئًا رافعًا صوتك غير متلجلج ولا متهيب لمكان الإمارة، ولا عارف بقيمتها، حتى كأنك تخاطب أباك أو أخاك؟! وإن جهلك ليحملك على العود لمثلها، فلا تجد مثل هذا الشافع في مثلها من عقوبة. فقال: ولعلَّ فتوحات الأمير يقترن اتصالها باتصال جهلي وذنوبي، فتشفع لي متى أتيت بمثل هذه الزلة؛ لا أعدمنيه الله تعالى. فتهلَّل وجه الأمير وقال: ليس هذا باعتذار جاهل. ثم قال: نَبِّهونا على أنفسكم، إذا لم تجدوا مَنْ يُنَبِّهنا عليها. ورفع مرتبته وزاد في عطائه»[4]. فهو هنا على رغم غضبه لمقام الإمارة إلاَّ أنه حلم عليه ولم يُعاقبه بل زاد في مكافأته؛ لَمَّا تكشَّفت له حكمة الجندي وفصاحته.

عبد الرحمن الداخل.. الإنسان

مع المدَّة الكبيرة التي حكمها القائد عبد الرحمن الداخل، ومع امتداد عمره، وموقعه القيادي في أي مكان ينزل فيه، مع هذا كله؛ لم يُؤْثَر عنه أيُّ خلق ذميم أو فاحش، بل مدحه العلماء بالعلم والفضل وحُسن الخلق؛ مما يدلُّ على إنسانيته السامية، ومعدنه النفيس، وأخلاقُ الإنسان الحقيقية لا تظهر بوضوح إلاَّ في وقت الشدَّة، وحياة عبد الرحمن كلها شدائد وحروب؛ مما يُظْهِر أخلاقه بوضوح أمام أيِّ باحث في التاريخ، ويُحَدِّد ما إذا كانت حسنة أو سيئة.

وكان عبد الرحمن الداخل خطيبًا مفوَّهًا يرتقي المنابر ويعظ الناس، فهو كما نعرف نشأ في بيت الإمارة، وهكذا الأمراء في ذلك العصر، كما كان -أيضًا- شاعرًا مرهف الحسِّ، قال سعيد بن عثمان اللغوي الذي توفي سنة أربعمائة: كان بقُرْطُبَة جَنَّة حديقة اتخذها عبد الرحمن بن معاوية، وكان فيها نخلة أدركتُها، ومنها تولَّدت كل نخلة بالأندلس.

قال: وفي ذلك يقول عبد الرحمن الداخل: [الكامل]
[/b][/b][/b][/b][/b][/b][/b]
يَا نَخْلُ أَنْتِ غَرِيبَةٌ مِثْلِي

فِي الْغَرْبِ نَائِيَةٌ عَنِ الأَصْلِ
فَابْكِي وَهَلْ تَبْكِي مُكَيَّسَةٌ

عَجْمَاءُ لَمْ تُطْبَعْ عَلَى خَيْلِ؟
لَوْ أَنَّها تَبْكِي إذًا لَبَكَتْ

مَاءَ الْفُرَاتِ وَمَنْبِتَ النَّخْلِ
لَكِنَّهَا ذَهِلَتْ وَأَذْهَلَنِي

بُغْضِي بَنِي الْعَبَّاسِ عَنْ أَهْلِي[5]
[b][b][b][b][b][b][b]
ومن شعره أيضًا: [الخفيف]
[/b][/b][/b][/b][/b][/b][/b]
أَيُّهَا الرَّاكِبُ الْمُيَمِّمُ أَرْضِي

أَقْرِ مِنْ بَعْضِي السَّلامَ لِبَعْضِي
إِنَّ جِسْمِي كَمَا عَلِمْتَ بِأَرْضٍ

وَفُؤَادِي وَمَالِكِيهِ بِأَرْضِ
قُدِّرَ البَيْنُ بَيْنَنَا فَافْتَرَقْنَا

فَعَسَى بِاجْتِمَاعِنَا اللهُ يَقْضِي[6]
[b][b][b][b][b][b][b]
عبد الرحمن الداخل وفكره العسكري

تمتَّع عبد الرحمن الداخل بفكر عسكري في غاية الدقَّة والعجب؛ فحياته كُلُّها -تقريبًا- حروب ومناوشات منذ سقوط خلافة بني أمية وحتى وفاته، مرورًا بفراره عبر البلاد والصحارى والقفار والبحار، وانتهاءً بالثورات الكثيرة التي تغلَّب عليها بلا استثناء؛ ليُوَطِّد مُلكه في بلاد الأندلس دون منازع.

ولولا ذكاؤه العسكري ما تغلَّب على كل هذه الثورات، التي يحار العقل في كثرتها، وكيف قضى عليها جميعًا، ونعرض هنا لبعض ملامح فكره العسكري من خلال مواقفه في معاركه وبطولاته، التي شغلت طول حياته وعرضها؛ ومن هذه الملامح:
أولاً: مبدأ المباغتة والحرص على المبادأة

فهو يُخَطِّط بدقَّة من أجل الوصول إلى أهدافه، ثم هو لا يترك لخصومه الفرصة، بل يُسرع ليُباغتهم وهم في بداية أعمالهم القتالية المضادَّة له، والتاريخ يُؤَكِّد أن أفضل وسيلة للقضاء على أعمال التمرُّد هو تطويقها منذ بداياتها الأولى، وعدم السماح لها بالتطوُّر، والعمل على خنقها وهي لا تزال في مهدها، ويظهر هذا المبدأ واضحًا في معركة المصارة، فقد بات ليلته يستعدُّ للحرب بينما كان خصمه يحاول خداعه، بحُجَّة تأجيل القتال، وكانت المباغتة كاملة؛ بحيث لم تتمكَّن القوات المضادَّة من الصمود، على الرغم مما أظهرته في البداية من ضروب الشجاعة[7]، والأمر مماثل بالنسبة لبقية حروب الأمير عبد الرحمن ومعاركه؛ حيث كان للمباغتة دور كبير وحاسم في تقرير نتائج القتال من قبل أن تبدأ المعركة.

ولم يكن حرص عبد الرحمن الداخل على الاحتفاظ بالمبادأة أقل من حرصه على المباغتة، فهو يحاول باستمرار وضع خصومه أمام مواقف تحرمهم من حرية العمل، ويفرض عليهم زمن المعركة، وكان في معاركه كلها يُجَابه قادة على درجة عالية من الكفاءة، فكان لا بُدَّ له من البحث عن الوسيلة التي تحرمهم من استخدام قدراتهم وإمكاناتهم.

ثانيًا: الاقتصاد في القوى والمحافظة على الهدف

وتظهر أهمية هذين المبدأين عند مطالعة سيرته، فقد كانت حياته سلسلة متصلة الحلقات من الوقائع والمعارك، وكان لا بُدَّ من الموازنة المستمرَّة بين الأهداف المتتالية للحرب، وبين القوى والوسائط اللازمة للتعامل معها، مع إعطاء الأولوية للأهداف الأكثر أهمية وخطورة عندما يظهر أن هناك أكثر من هدف يجب التعامل معه في وقت واحد، وهذا ما كان يحدث في معظم الأحيان، وأمام هذه المواقف بمجموعها كان لا بُدَّ من إجراء حسابٍ دقيقٍ لموازين القوى؛ بحيث يمكن استخدامها على أفضل صورة وفي أحسن وجه، وهذا ما أَكَّدته مجموعة الأعمال القتالية للأمير عبد الرحمن.

حياة صقر قريش في سطور

لقد كانت حياة القائد العظيم عبد الرحمن الداخل وقفًا على الجهاد وإقامة الدولة الإسلامية، وتثبيت بُنيانها، وإرساء دعائمها، ورَدِّ الطامعين فيها، فكانت الأيام التي عاشها الأمير عبد الرحمن في طمأنينة وراحة لا تزيد على أيام قليلة، وكانت حياته حركة مستمرَّة في تنظيم الجيوش، وعقد الرايات، وتوجيه القوَّات، وتحصين الثغور، والقضاء على الفتن والثورات، ووضع أُسس البنيان الحضاري.

وفاته

عاش عبد الرحمن الداخل تسعًا وخمسين سنة؛ منها تسع عشرة سنة في دمشق والعراق قبل سقوط دولة الأمويين، وستُّ سنوات فرارًا من بني العباس وتخطيطًا لدخول الأندلس، وأربع وثلاثون سنة في المُلك ببلاد الأندلس، وتُوُفِّي بقُرْطُبَة ودُفِنَ بها في جُمادى الأولى 172هـ= أكتوبر 788م[8].


[/b][/b][/b][/b][/b][/b][/b]
[1] المقري: نفح الطيب، 3/37.
[2] انظر: المقري: نفح الطيب، 3/37.
[3] المصدر السابق، 3/39.
[4] انظر: المقري: نفح الطيب، 3/41، 42.
[5] الذهبي: تاريخ الإسلام، 11/241، وانظر: ابن الأبار: الحلة السيراء، 1/37.
[6] الذهبي: تاريخ الإسلام، 11/241، 242، وانظر: ابن الأبار: الحلة السيراء، 1/36.
[7] المقري: نفح الطيب، 3/33.
[8] انظر: مجهول: أخبار مجموعة، ص105، وابن عذاري: البيان المغرب، 2/58، والمقري: نفح الطيب، 3/48.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
همسة قلم
اديبة


انثى
تاريخ التسجيل : 17/11/2013
عدد المشاركات : 13947
نقاط التقييم : 14510
بلد الاقامة : لبنان
علم بلدك : Lebanon لبنان

زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي )   زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Emptyالأحد ديسمبر 08, 2013 3:09 pm

الإمارة الأموية

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

ظلَّ عبد الرحمن الداخل يحكم الأندلس منذ سنة (138هـ=755م) وحتى سنة (172هـ=788م) أي قُرابَةَ أربعةٍ وثلاثين عامًا -كما ذكرنا- وكانت هذه هي بداية تأسيس عهد الإمارة الأموية، والتي استمرَّت من سنة (138هـ=755م) وحتى سنة (316 هـ=928م).

وحتى نستطيع أن نفهم عهد الإمارة الأموية يمكنُنا تقسيمه إلى فتراتٍ ثلاثٍ كما يلي:
الفترة الأولى: فترة القوة

واستمرَّت مائة عام كاملة (138-238هـ= 755-852م)، وتُعتَبَر هذه الفترة هي فترة القوَّة والمجد والحضارة، وكانت فيها الهيمنة للدولة الإسلامية على ما حولها من مناطق.

الفترة الثانية: فترة الضعف

وتُعَدُّ فترة ضعف، وقد استمرَّت اثنين وستين عامًا (238-300هـ=852-913م).

الفترة الثالثة: فترة الانتقال للخلافة الأموية

وهي ما بعد سنة (300هـ=913م)، وحتى (316 هـ)، وهي فترة التأسيس والانتقال لعصر الخلافة الأموية.

الفترة الأولى: فترة القوة

تُمَثِّل هذه الفترة عهد القوَّة في فترة الإمارة الأموية؛ كانت البداية فيها لعبد الرحمن الداخل -رحمه الله- ثم خَلَفَه من بعده ثلاثة من الأمراء، كان أوَّلهم هشام بن عبد الرحمن الداخل، وقد حكم من سنة (172هـ=788م) حتى سنة (180هـ=796م) [1].



[1] انظر: المقري: نفح الطيب، 1/334.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
همسة قلم
اديبة


انثى
تاريخ التسجيل : 17/11/2013
عدد المشاركات : 13947
نقاط التقييم : 14510
بلد الاقامة : لبنان
علم بلدك : Lebanon لبنان

زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي )   زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Emptyالأحد ديسمبر 08, 2013 4:34 pm

ولاية هشام بن عبد الرحمن الداخل

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

كان عبد الرحمن الداخل قد استقرَّ أمره على ابنه هشام خليفة له، فولاَّه العهد مع كونه أصغر من أخيه سليمان، فلقد كان أكفأ منه وأفضل، ولقد صدق حَدْسُه فيه؛ حيث كان الناس يُشبِّهونه بعد ذلك بعمر بن عبد العزيز t في علمه وعمله وورعه وتقواه.

الفتنة بين أولاد عبد الرحمن الداخل

وكان هشام بن عبد الرحمن - هشام الرضا- بمَارِدَة عند موت أبيه، وقد عاد منها إلى قُرْطُبَة بعد ستة أيام من وفاة أبيه، فبايعه العوامُّ ورجال الدولة، وكان ذلك سنة 172هـ= 788م، وكان أخوه سليمان بطُلَيْطلَة، فلما علم سليمان بالأمر غضب، وأعلن الثورة على أخيه، وجهَّز بالفعل جيشًا توجَّه به لقتال أخيه في قُرْطُبَة، فخرج إليه هشام بن عبد الرحمن الداخل والتقيا في جَيَّان، ودارت بينهما حرب شديدة انتهت بهزيمة سليمان، ففرَّ عائدًا إلى طُلَيْطِلَة[1].

وكان لهشام أخٌ آخر يُسَمَّى عبد الله، وكان هشام يُحسن معاملته، ولكن يبدو أن عبد الله قد طمع فيما هو أكثر من ذلك، ففرَّ إلى أخيه سليمان في طُلَيْطِلَة، فلمَّا علم هشام بالأمر أشفق على عبد الله فأرسل له مَنْ يَرُدُّه ويترضَّاه، إلاَّ أن الرسول لم يلحق به[2].

ولم يبقَ أمام هشام إلاَّ أن يُبادر إلى أخيه سليمان -كما كان يفعل أبوه- قبل أن يبدأه سليمان -كما فعل من قبل- ويحاول هو مهاجمة قُرْطُبَة، وبالفعل خرج إلى طُلَيْطِلَة وحاصرها فترة، فحاول سليمان أن يستغلَّ الفرصة وفرَّ منها إلى
قُرْطُبَة؛ ليستوليَ عليها في غياب أخيه، ولكن أهلها حاربوه، فحاول الاستيلاء على مَارِدَة؛ لأنها قريبة من قُرْطُبَة، ليستطيع تهديد قُرْطُبَة منها إلاَّ أن واليها استطاع ردَّه عن مَارِدَة، فهرب إلى مُرْسِيَة ثم إلى بَلَنْسِيَة، وأخوه يُطارده، فلمَّا دبَّ اليأس إلى نفسه، طلب الأمان، فأمنَّه وكان قد أمَّن عبد الله قبله، وتركهما يرحلان إلى بلاد الشمال الإفريقي[3].


عهد هشام بن عبد الرحمن الداخل


وقد كان هشام بن عبد الرحمن الداخل –هشام الرضا- عالِمًا محبًّا للعلم، وقد أحاط نفسه –رحمه الله-
بالفقهاء، وكان له أثر عظيم في بلاد الأندلس بنشره اللغة العربية فيها، وقد أخذ ذلك منه مجهودًا وافرًا وعظيمًا، حتى أصبحت اللغة العربية تُدرَّس في معاهد اليهود والنصارى داخل أرض الأندلس[4].

ومن أبرز التغيرات الجوهرية التي تمَّت بالأندلس في عهد هشام انتشار
المذهب المالكي فيها، وقد كانت البلاد من قبل ذلك على مذهب الإمام الأوزاعي[5].

وكانت لهشام صولات وجولات كثيرة في الشمال مع الممالك النصرانية
[6].

وكان من علماء عصره صعصعة بن سلامة الشامي، وكان المفتي أيام عبد الرحمن الداخل، وفي بداية عهد هشام بن عبد الرحمن، كما ولي الصلاة بقُرْطُبَة، وروى عنه عبد الملك بن حبيب وعثمان بن أيوب
[7]، كما كان من المحدثين في أيامه عبد الرحمن بن موسى، وقد روى عنه أصبغ بن خليل وغيره، وقد توفي هو وصعصعة بن سلامة أيام هشام بن عبد الرحمن الداخل[8].

وفاة هشام بن عبد الرحمن الداخل


وتوفي هشام بن عبد الرحمن الداخل -هشام الرضا- في صفر 180هـ= إبريل 796م فكانت خلافته سبع سنين وتسعة أشهر، وتوفي –رحمه الله- وهو ابن تسع وثلاثين سنة وأربعة أشهر وأربعة أيام، ودُفِنَ في القصر، وصلَّى عليه ابنه الحكم
[9].
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
همسة قلم
اديبة


انثى
تاريخ التسجيل : 17/11/2013
عدد المشاركات : 13947
نقاط التقييم : 14510
بلد الاقامة : لبنان
علم بلدك : Lebanon لبنان

زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي )   زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Emptyالأحد ديسمبر 08, 2013 4:35 pm

ولاية الحكم بن هشام



تولَّى بعد هشام بن عبد الرحمن الداخل ابنه الحكم الشهير بالحكم الربضي، وذلك من سنة (180هـ=796م) وحتى سنة (206هـ=821م) [1]، لكن الحكم لم يكن على شاكلة أبيه ولا على شاكلة جدِّه، فكان قاسيًا جدًّا، فرض الكثير من الضرائب، واهتمَّ بالشِّعر والصيد، وقاوم الثورات بأسلوب غير مسبوق في بلاد الأندلس في عهد الإمارة الأموية؛ حتى وصل الأمر في آخر حياته إلى حرق بيوت الثائرين عليه، ونفيهم خارج البلاد[2].

ثورة الربض

من أشهر الثورات التي قمعها الحكم بن هشام – الحكم الربضي- ثورة الربض (202 هـ= 808 م) وهم قومٌ كانوا يعيشون في إحدى ضواحي قُرْطُبَة، وقد ثار أهلها ثورة كبيرة جدًّا عليه؛ بسبب ما عُرِفَ عنه من معاقرة الخمر، وتشاغله باللهو والصيد، وقد زاد من نقمة الشعب عليه قتله لجماعة من أعيان قُرْطُبَة؛ فكرهه الناس، وصاروا يتعرَّضون له ولجنده مما حثَّه على تحصين قرطبة، فأقام حولها الأسوار، وحفر الخنادق، وجعل جنوده على مقربة منه؛ فزاد ذلك من حقد أهل قُرْطُبَة عليه، وزاد توجُّسهم منه، ثم حدث أن مملوكًا له اختلف مع أحد العوامِّ فقتله؛ فثار أهل الربض، وزحفوا إلى قصره وأحاطوا به فقاتلهم قتالاً شديدًا هو وجنده حتى تغلَّب عليهم[3].

ولم يكتفِ الحكم بهزيمتهم، بل أحرق وخرَّب ديارهم، وقتل ثلاثمائة من وجهائهم وصلبهم، وأمر بطردهم خارج البلاد[4]؛ فتفرَّقوا في البلاد ومنهم مَنْ ذهب إلى الإسكندرية في مصر، وأقاموا فيها فترة ثم ارتحلوا عنها إلى جزيرة كريت، فأقاموا فيها دويلة عام (212هـ=728م) استمرَّت مائة عام حتى استولى عليها البيزنطيون من بعد[5].
الجهاد في عهد الحكم بن هشام

ورغم أفعاله تلك إلاَّ أن الحكم بن هشام لم يُوقِفْ حركة الجهاد[6]؛ وذلك لأن الجهاد كان عادة في الإمارة الأموية؛ سواء في بلاد الشام أو في بلاد الأندلس، لكن كانت له انتصارات وهزائم في الوقت نفسه، وكنتيجة طبيعية لهذا الظلم الذي اتَّصف به، وهذه العلاقة التي ساءت بين الحاكم والمحكوم سقطت بعض البلاد الإسلامية في يد النصارى؛ فسقطت بَرْشُلُونَة، وأصبحت تُمثِّل إمارة نصرانية صغيرة في الشمال الشرقي عُرِفَت في التاريخ باسم إمارة أراجون، وكانت متاخمة لحدود فرنسا بجوار جبال البرينيه في الشمال الشرقي للبلاد[7].

لكن الحكم بن هشام بفضل من الله ومَنٍّ عليه تاب عن أفعاله في آخر عهده، ورجع عن ظلمه، واستغفر واعتذر للناس عن ذنوبه، ثم اختار من أبنائه أصلحهم، وإن لم يكن الأكبر؛ ليكون وليًّا لعهده، وكان من حُسْنِ خاتمته أنه قام بهذا الاعتذار وهذه التوبة وهو في كامل قوَّته وبأسه، وذلك قبل موته بعامين[8].

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
همسة قلم
اديبة


انثى
تاريخ التسجيل : 17/11/2013
عدد المشاركات : 13947
نقاط التقييم : 14510
بلد الاقامة : لبنان
علم بلدك : Lebanon لبنان

زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي )   زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Emptyالأحد ديسمبر 08, 2013 4:36 pm

ولاية عبد الرحمن الأوسط

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
بعد الحكم بن هشام تولَّى ابنه عبد الرحمن الثاني، وهو المعروف في التاريخ باسم عبد الرحمن الأوسط (فهو الأوسط بين عبد الرحمن الداخل وعبد الرحمن الناصر كما سيأتي)، وقد حكم من سنة (206هـ=821م) وحتى آخر الفترة الأولى (عهد القوة) من عهد الإمارة الأموية، وذلك سنة (238هـ=852م)، وتُعَدُّ فترة حكمه هذه من أفضل فترات تاريخ الأندلس، فاستأنف الجهاد من جديد ضدَّ النصارى في الشمال، وألحق بهم هزائم عدَّة[1]، وكان حسن السيرة، هادئ الطباع، محبًّا للعلم، محبًّا للناس[2].


قال عنه الصفدي: كان عادلاً في الرعية بخلاف أبيه، جوادًا فاضلاً، له نظر في العلوم العقلية، وهو أول من أقام رسوم الإمرة، وامتنع عن التبذُّل للعامَّة، وهو أول من ضرب الدراهم بالأندلس، وبنى سور إِشْبِيلِيَة، وأمر بالزيادة في جامع قُرْطُبَة، وكان يُشَبَّه بالوليد بن عبد الملك، وكان محبًّا للعلماء مقرِّبًا لهم، وكان يُقيم الصلوات بنفسه، ويُصَلِّي إمامًا بهم في أكثر الأوقات... وهو أول مَنْ أدخل كتب الأوائل إلى الأندلس، وعرَّف أهلها بها، وكان حَسَنَ الصورة ذا هيئة، وكان يُكثِر تلاوة القرآن، ويحفظ حديث النبي ، وكان يُقالُ لأيامه أيام العروس، وافتتح دولته بهدم فندق الخمر وإظهار البِرِّ، وتملَّى[3] الناس بأيامه وطال عمره، وكان حَسَنَ التدبير في تحصيل الأموال وعمارة البلاد بالعدل، حتى انتهى ارتفاع بلاده في كل سنة ألف ألف دينار[4].

عهد عبد الرحمن الثاني

ومن أهم ما تميَّز به عهد عبد الرحمن الأوسط الأمور الثلاثة التالية:
أولاً: ازدهار الحضارة العلمية

ومن أشهر العلماء في عصر عبد الرحمن الأوسط عباس بن فرناس -رحمه الله- (274 هـ=887م)، وكنيته أبو القاسم، وهو من أهل قُرْطُبَة، من موالي بني أمية، وبيته في برابر (تاكرنا) كان في عصر الخليفة عبد الرحمن الأوسط (في القرن التاسع للميلاد)، وله أبيات في ابنه محمد بن عبد الرحمن (المتوفى سنة 273هـ)، وكان فيلسوفًا شاعرًا، له علم بالفلك[5].

وهو أول مَنِ استنبط في الأندلس صناعة الزجاج من الحجارة، وصنع (الميقاتة) لمعرفة الأوقات، ومَثَّل في بيته السماء بنجومها وغيومها وبروقها ورعودها، وهو أول طيار اخترق الجوَّ؛ أراد تطيير جثمانه، فكسا نفسه الريش، ومدَّ له جناحين طار بهما في الجوِّ مسافة بعيدة، ثم سقط فتأذَّى في ظهره؛ لأنه لم يعمل له ذنبًا، ولم يَدْرِ أن الطائر إنما يقع على زِمِكِّه[6].

ولكنه -برغم هذه المحاولة الرائدة التي فشلت- كان عبقرية هائلة؛ حتى إن الصفدي بَعْدَ كثيرٍ من المدح له يصفه بأنه «له شخص إنسي وفطنة جني»[7].

ثانيًا: ازدهار الحضارة المادية

اهتمَّ عبد الرحمن الأوسط بالحضارة المادية (العمرانية والاقتصادية وغيرها) اهتمامًا كبيرًا[8]، فازدهرت حركة التجارة في عهده؛ ومن ثَمَّ كثُرت الأموال[9]؛ ومن المهم أن نعلم أن بلاد الأندلس لم يكن فيها ما نُسَمِّيه بـ «التسوُّل»، فقد كانت هذه العادة في بعض البلاد الإسلامية الأخرى؛ لكنها لم تُعرَف في بلاد الأندلس[10].

كذلك تقدَّمت وسائل الريِّ في عهده بشكل كبير، وتمَّ رصف الشوارع وإنارتها ليلاً في هذا العمق القديم جدًّا في التاريخ، في الوقت الذي كانت فيه أوربا تعيش في جهلٍ وظلام دامس، كما أقام القصور المختلفة والحدائق الغنَّاء، وتوسَّع في ناحية المعمار حتى كانت المباني الأندلسية آية في المعمار في عهده –رحمه الله[11].

ثالثًا: وقف غزوات النورمان

النورمان هم أهل إسكندنافيا، وهي بلاد تضمُّ الدانمارك والنرويج وفنلندا والسويد، وقد كانت هذه البلاد تعيش في همجية مطلقة؛ فقد كانوا يعيشون على ما يُسَمَّى بحرب العصابات، فقاموا بغزوات عُرِفَت باسم «غزوات الفايكنج»، وهي غزوات إغارة على أماكن متفرِّقة من بلاد العالم، ليس لها من هَمٍّ إلاَّ جمع المال وهَدْم الديار.

جهاد عبد الرحمن الأوسط

في عهد عبد الرحمن الأوسط سنة (230هـ=845م) هجمت هذه القبائل على إِشْبِيلِيَة من طريق البحر في أربع وخمسين سفينة، ودخلوها فأفسدوا فسادًا كبيرًا، ودمَّروا إِشْبِيلِيَة تمامًا، ونهبوا ثرواتها، وهتكوا أعراضها، ثم تركوها إلى شَذُونة وألمَرِيَّة ومُرْسِيَة وغيرها من البلاد فأشاعوا الرعب، وعمَّ الفزع[12]، وهذه هي طبيعة الحروب المادية بصفة عامَّة، وشتَّان بين المسلمين في فتحهم للبلاد وبين غيرهم في معاركهم!

فلمَّا علم عبد الرحمن الأوسط -رحمه الله- بهذا الأمر ما كان منه إلاَّ أن جهَّز جيشه وأعدَّ عُدَّته، وخلال أكثر من مائة يوم كاملة دارت بينه وبينهم معارك ضارية، أُغرِقَت خلالها خمسٌ وثلاثون سفينةً للفايكنج، ومنَّ الله على المسلمين بالنصر، وعاد النورمان إلى بلادهم خاسئين خاسرين[13].

ولم يجنح عبد الرحمن الأوسط بعدها إلى الدَّعَة أو الخمول، وإنما عمل على تفادي تلك الأخطاء التي كانت سببًا في دخول الفايكنج إلى بلاده فقام بما يلي:
أولاً: رأى أن إِشْبِيلِيَة تقع على نهر الوادي الكبير الذي يصبُّ في المحيط الأطلنطي، ومن السهولة جدًّا أن تدخل سفن الفايكنج أو غيرها من المحيط الأطلنطي إلى إِشْبِيلِيَة، فقام بإنشاء سور ضخم حول إِشْبِيلِيَة، وحصَّنها تحصينًا منيعًا، ظلَّت بعده من أحصن حصون الأندلس بصفة عامة[14].

ثانيًا: لم يكتفِ بذلك بل قام -أيضًا- بإنشاء أسطولين قويين؛ أحدهما في الأطلسي والآخر في البحر الأبيض المتوسط؛ وذلك حتى يُدافع عن كل سواحل الأندلس، فكانت هذه الأساطيل تجوب البحار وتصل إلى أعلى حدود الأندلس في الشمال عند مملكة ليون، وتصل في البحر الأبيض المتوسط حتى إيطاليا.

وكان من نتيجة ذلك أنه فتح جزر البليار للمرة الثانية[15]، وكذلك كان من نتيجة هزيمة الفايكنج في هذه الموقعة قدوم سفارة من الدانمارك محمَّلة بالهدايا تطلب وُدَّ المسلمين، وتطلب المعاهدة معهم.
وبلغت البلاد من القوة في عهد الأمير عبد الرحمن هذا أن جاءته الهدايا من القسطنطينية أيضًا[16].
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
همسة قلم
اديبة


انثى
تاريخ التسجيل : 17/11/2013
عدد المشاركات : 13947
نقاط التقييم : 14510
بلد الاقامة : لبنان
علم بلدك : Lebanon لبنان

زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي )   زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Emptyالأحد ديسمبر 08, 2013 7:49 pm

فترة الضعف في الإمارة الأموية

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

بوفاة عبد الرحمن الأوسط -رحمه الله- يبدأ عهد جديد في بلاد الأندلس، وهو فترة الضعف في الإمارة الأموية، ويبدأ من سنة (238هـ=852م) وحتى سنة (300هـ=913م) أي حوالي اثنتين وستين سنة.

فلقد تولَّى بعد عبد الرحمن الأوسط ابنه محمد بن عبد الرحمن الأوسط، ثم اثنان من أولاده؛ هما: المنذر وعبد الله، وحقيقة الأمر أن الإنسان لَيَتَعجَّب: كيف بعد هذه القوَّة العظيمة والبأس الشديد والسيطرة على بلاد الأندلس وما حولها يحدث هذا الضعف وذلك الانحدار؟!

فمن سُنن الله تعالى أن الأمم لا تسقط فجأة، بل يأتي السقوط متدرِّجًا وعلى فترات طويلة، ففي عهد الولاة الثاني ظهرت أسباب الضعف؛ منها:
أولاً: انفتاح الدنيا وحبُّ الغنائم.
ثانيًا: القَبَلِيَّة والقومية.
ثالثًا: ظلم الولاة.
رابعًا: ترك الجهاد.
وكل هذه الأسباب لم تنشأ فجأة، وإنما كانت بذورها قد نشأت منذ أواخر عهد القوَّة من عهد الولاة أثناء وبعد موقعة بلاط الشهداء.

إذًا لكي نفهم سبب ضعف الإمارة الأموية علينا أن نرجع قليلاً، وندرس الفترة الأخيرة من عهد القوة، ونبحث فيها عن بذور الضعف، والأمراض التي أدَّت إلى هلكة أو ضعف الإمارة الأموية في هذا العهد الثاني.

عوامل وأسباب ضعف الإمارة الأموية

كان من أهمِّ أسباب ضعف الإمارة الأموية ما يلي:
أولاً: كثرة الأموال وانفتاح الدنيا على المسلمين

من جديد كانت الدنيا قد انفتحت على المسلمين، وكثرت الأموال في أيديهم، وقد زاد هذا بشدَّة في أواخر عهد القوة من الإمارة الأموية، فقد ازدهرت التجارة كثيرًا، ولم يُوجد هناك في البلاد فقير، وفُتِنَ الناسُ بالمال، وتكرَّر ثانية حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : «فَوَاللهِ مَا الْفَقْرُ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، فَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ»[1]. وقال -أيضًا-: «إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً وَفِتْنَةُ أُمَّتِي الْمَالُ»[2] وقد حذَّر الرسول صلى الله عليه وسلم من الدنيا مِرارًا وتكرارًا وقلَّل من قيمتها، فكان يقول صلى الله عليه وسلم : «وَاللهِ مَا الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِهِ[3] فِي الْيَمِّ فَلْيَنْظُرْ بِمَ يَرْجِعُ؟» [4].

ثانيًا: زِرْياب

اسم ليس بغريب لكنه كان كدابَّة الأرض التي أكلت مِنْسأَةَ سليمان u؛ فسقط جسده على الأرض؛ زِرْياب هذا كان من مطربي بغداد، تربَّى هناك في بيوت الخلفاء والأمراء؛ حيث كان يُغَنِّي لهم ويُطربهم، وكان مُعَلِّمه هو إبراهيم الموصلي كبير مطربي بغداد في ذلك الوقت[5].

ومع كرِّ الأيام ومرِّ السنين لمع نجم زرياب في بغداد فغار منه إبراهيم الموصلي، فدبَّر له مكيدة فطُرِدَ من البلاد، أو أنه هدَّده فهرب زرياب من نفسه دون مكائد كما في روايات أخرى.

وكانت مشارق الأرض الإسلامية ومغاربها متسعة جدًّا في ذلك الوقت، وبعد حيرة وجد زرياب ضالَّته في الأندلس؛ حيث الأموال الكثيرة والحدائق والقصور، وهي صفات كثيرًا ما يعشقها أمثال هؤلاء، كما تكون -أيضًا- أرضًا خصبة لاستقبال وإيواء أمثالهم[6].

وغالب الأمر أن الأندلس إلى هذه الفترة لم تكن تعرف الغناء، إلاَّ أن زرياب ذهب إلى هناك فاستقبلوه وعظَّمُوه وأحسنوا وِفَادته، حتى دخل على الخلفاء، ودخل بيوت العامَّة ونواديهم، فأخذ يُغَنِّي للناس ويُعَلِّمهم ما قد تَعَلَّمَه في بغداد، ولم يكتفِ زرياب بتعليمهم الغناء وتأليف ما يُسمَّى بالموشحات الأندلسية، لكنه بدأ يُعَلِّمهم فنون (الموضة) وملابس الشتاء والصيف والربيع والخريف، وأن هناك ملابس خاصَّة بكل مناسبة من المناسبات العامَّة والخاصَّة[7].

ولم يكن الناس في الأندلس على هذه الشاكلة، إلا أنهم أخذوا يسمعون من زرياب ويَتَعَلَّمُون؛ خاصَّة وأنه قد بدأ يُعَلِّمهم -أيضًا- فنون الطعام كما عَلَّمَهُم ملابس الموضة تمامًا، وأخذ يحكي لهم حكايات الأمراء والخلفاء والأساطير والروايات، وما إلى ذلك حتى تعلَّق الناس به بشدَّة، وتعلَّق الناس بالغناء، وكَثُرَ المطربون في بلاد الأندلس، ثم بعد ذلك انتشر الرقص، وكان في البداية بين الذكور ثم انتقل إلى الإناث وهكذا.

الغريب أن دخول زرياب إلى أرض الأندلس كان في عهد عبد الرحمن الأوسط -رحمه الله؛ ذلك الرجل الذي اهتمَّ بالعلم والحضارة والعمران والاقتصاد وما إلى ذلك، لكنه -ويا للأسف- ترك زرياب يفعل كل هذه الأمور، وينخر في جسد الأُمَّة دون أن يدري أحدٌ.

ففي الوقت الذي انتعشت فيه النهضة العلمية وكثُرَ العلماء، كان كلام زرياب المنمَّق وإيقاعه الرَّنَّان يصرف الناس عن سماع العلماء إلى سماعه هو، ويصرف الناس عن سماع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعن سماع قصص السلف الصالح إلى سماع حكاياته العجيبة وأساطيره الغريبة، بل - والله - لقد انصرف الناس عن سماع القرآن الكريم إلى سماع أغانيه والتعلُّق بلهوه ومجونه.

وليس هذا بعجيب أو جديد؛ ففي بداية دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة، وحين رآه النضر بن الحارث -وكان من رءوس الكفر- يخاطب الناس بالقرآن فيتأثَّرُون ويؤمنون بهذا الدين، ما كان منه إلاَّ أن قطع أميالاً طويلة وذهب إلى بلاد فارس، وقضى هناك فترة طويلة يتعلَّم حكايات رستم وإسفنديار، ويتعلَّم الأساطير الفارسية، ثم اشترى قينتين (مغنيتين) وعاد إلى مكة، وفي مكة كان النضر بن الحارث يقوم بحرب مضادة للدعوة الإسلامية، فكان إذا وجد في قلب رجل ميلاً إلى الإسلام أرسل له القينتين تُغَنِّيانِه ما كان في بلاد فارس من حكايات رستم وإسفنديار؛ حتى يُلهياه عن هذا الدين، وظلَّ على هذا النحو، وأنزل الله I فيه قرآنًا يُتلى إلى يوم القيامة: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [لقمان: 6].
وقد أقسم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنها ما نزلت إلاَّ في الغناء[8].

وهكذا؛ فالشيطان لا يهدأ ولا ينام حتى في وجود هذه النهضة العلمية؛ {ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}[الأعراف: 17].
وكلما زاد الاهتمام بالدين، وارتقى مستوى الإيمان عند الناس، وتعلَّقت قلوبهم بالمساجد، نشط الشيطان، وزادت حركته عن طريق زرياب ومَن سار على نهجه.

وإنه بالرغم من مرور أكثر من ألفٍ ومائتي عام على وفاة زرياب هذا، إلا أن له شهرة واسعة في كل بلاد شمال إفريقيا، فلم يسمع الكثير من الناس عن السَّمح بن مالك الخولاني وعنبسة بن سحيم -رحمهما الله- ولم يسمعوا عن عُقبَة بن الحجاج، أو سيرة عبد الرحمن الداخل، أو عبد الرحمن الأوسط، ولم يسمعوا عن كثير من قادة المسلمين في فارس والروم وفي بلاد إفريقيا والأندلس؛ لكنهم سمعوا عن زرياب، ويعرفون سيرته وتفاصيل حياته، بل إن موشحاته الأندلسية ما زالت إلى يومنا هذا تُغنَّى في تونس والمغرب والجزائر، وما زالت تُدرَّس سيرته الذاتية هناك على أنه رجل من قوَّاد التنوير والنهضة، ويُمَجَّد في حربه ضدَّ الجمود وكفاحه من أجل الفنِّ، ولا يعلم الناس أن زرياب هذا ومَنْ سار على طريقه كان سببًا رئيسًا في سقوط بلاد الأندلس، ولا حول ولا قوة إلا بالله!

ثالثًا: عمر بن حفصون

عمر بن حفصون (240-306هـ=855-919م) كان مسلمًا من المولَّدين؛ أي: من أهل الأندلس الأصليين، كان عمر بن حفصون قاطعًا للطريق، وكان يتزعَّم عصابة من أربعين رجلاً، وحين بدأ الناس يركنون إلى الدنيا ويتركون الجهاد في سبيل الله زاد حجمه، واشتدَّ خطره، وبدأ يثور في منطقة الجنوب؛ حتى أرهب الناس في هذه المنطقة، وأخذ يجمع حوله الأنصار فتوسَّع سلطانه كثيرًا، فسيطر على كل الجنوب الأندلسي.

وفي سنة (286هـ=899م) قام عمر بن حفصون بعملٍ لم يتكرَّر كثيرًا في التاريخ الإسلامي بصفة عامَّة وتاريخ الأندلس بصفة خاصَّة؛ فلكي يُعَضِّد من قوَّته في آخر عهده، وبعد اثنين وعشرين عامًا من ثورته انقلب على عقبيه وتحوَّل من الإسلام إلى النصرانية، وسمَّى نفسه صمويل؛ وذلك بهدف كسب تأييد مملكة ليون النصرانية في الشمال، وهو وإن كان قد تركه بعض المسلمين الذين كانوا معه إلاَّ أنه نال بالفعل تأييد مملكة ليون، في الوقت الذي تزامن مع توقُّف الجهاد في ممالك النصارى[9].

بدأت (مملكة ليون) تتجرَّأ على حدود الدولة الإسلامية؛ فبدأت تهاجمها من الشمال وعمر بن حفصون أو صمويل يُهاجمها من جهة الجنوب.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
همسة قلم
اديبة


انثى
تاريخ التسجيل : 17/11/2013
عدد المشاركات : 13947
نقاط التقييم : 14510
بلد الاقامة : لبنان
علم بلدك : Lebanon لبنان

زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي )   زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Emptyالأحد ديسمبر 08, 2013 7:50 pm

الأندلس أواخر عهد الضعف

بعد اثنين وستين عامًا من الضعف الشديد، وبعدما تفاعلت عوامل السقوط مع بعضها البعض، نُلقي الآن نظرة عامَّة على طبيعة الوضع في بلاد الأندلس أواخر عهد الضعف في الإمارة الأموية؛ أي سنة (300هـ=913م)، ونُوَضِّح أهمَّ الملامح التي سادت هذا العصر، والتي كانت من فعلِ ونتاجِ عوامل الضعف.

أولاً: كثرة الثورات داخل الأندلس

كانت هناك ثورات لا حصر لها داخل الأندلس، بل واستقلالات في كثير من المناطق، والتي كان من أشهرها استقلال صمويل أو عمر بن حفصون؛ حيث استقلَّ بالجنوب وكوَّن ما يشبه الدُّوَيْلة، فضَمَّ إليه الكثير من الحصون، حتى ضمَّ كل حصون إِسْتِجَة وجَيَّان، التي كانت عند فتح الأندلس من أحصن المناطق الأندلسية على الإطلاق، وكذلك كانت غَرْنَاطَة إحدى المدن التي في حوزته، والتي اتخذ لها عاصمة سمَّاها (بابشتر) وتقع في الجنوب بجوار ألمَرِيَّة على ساحل البحر الأبيض المتوسط[1].

وكان من هذه الثورات الكبيرة -أيضًا- ثورة ابن حجاج في أشبيلية، وكانت هذه الثورة تمدُّ وتساعد عمر بن حفصون أو صمويل في ثورته ضد قُرْطُبَة[2].

ومثلها كانت ثورة ثالثة في شرق الأندلس في منطقة بَلَنْسِيَة، ورابعة في منطقة سَرَقُسْطَة في الشمال الشرقي، حيث استقلَّت إمارة سَرَقُسْطَة -أيضًا- عن الإمارة الأموية في قُرْطُبَة، وخامسة في غرب الأندلس يقودها عبد الرحمن الجلِّيقي، وسادسة في طُلَيْطلَة، وهكذا ثورات وثورات أَدَّت في نهاية الأمر إلى أن الحكومة المركزية للإمارة الأموية في قُرْطُبَة لم تَعُدْ تُسيطر على كل بلاد الأندلس إلاَّ على مدينة قُرْطُبَة وحدها، إضافة إلى بعض القرى التي حوله[3].

ومن ثَمَّ فقد انفرط العِقد تمامًا حتى سنة (300هـ= 913م)، وتوزَّعت الأندلس بين كثير من القوَّاد، كُلٌّ يحارب الآخر، وكُلٌّ يبغي مُلكًا ومالاً.

ثانيًا: تكوُّن مملكة نافار

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

ذكرنا -سابقًا- أنه كانت هناك مملكتان نصرانيتان؛ هما مملكة ليون في الشمال الغربي ومملكة أراجون في الشمال الشرقي وعاصمتها بَرْشُلُونَة، اللتان تكوَّنتا زمن ضعف المسلمين في عهد الولاة الثاني، وهنا وفي الفترة الثانية من فترتي الإمارة الأموية تكوَّنت في الشمال -أيضًا- مملكة نصرانية ثالثة كانت قد انفصلت عن مملكة ليون، وهي مملكة أو إمارة نافار، وتُكتَب في بعض الكتب العربية (نباره)، وتُعرَفُ الآن في إسبانيا بإقليم الباسك، ذلك الإقليم الذي يحاول الانشقاق عن إسبانيا.

هذه الممالك النصرانية الثلاث بعد أن كانت تخاف المسلمين في العهد الأول للإمارة الأموية، تجرَّأت كثيرًا على البلاد الإسلامية؛ فهاجمت شمال الأندلس، وبدأت تقتل المسلمين المدنيين في مدن الأندلس الشمالية.

ثالثًا: قتلُ ولي العهد محمد بن عبد الله

أمر خطير آخر قد ظهر، وهو يُعَبِّرُ عن مدى المأساة والفتنة في ذلك الوقت، وهو أنَّ وَلِيَّ العهد للأمير عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الأوسط الذي كان يحكم البلاد في ذلك الوقت قتله أخوه المطرف بن عبد الله، وكان ولي العهد هذا يُسمَّى محمد بن عبد الله، فأصبح الوضع من الخطورة بمكان[4].

وهكذا يكون الحال حين يختلف المسلمون ويتفرَّقون، وحين ينشغلون بدنياهم وبزريابهم وبأنفسهم؛ حكومات نصرانية في الشمال تهاجم المسلمين، ثورات واستقلالات في الداخل، قتلٌ لولي العهد القادم، بلاد إسلامية واسعة بغير ولي عهد في هذه المرحلة الحرجة.

رابعًا: ظهور نجم الدولة العبيدية الفاطمية الشيعية

زادت الأمور تعقيدًا في بلاد الأندلس بظهور دولة جديدة في بلاد المغرب، كانت من أشدِّ الدول خطورة على بلاد الأندلس، وهي الدولة المسمَّاة بالفاطمية، واسمها الصحيح الدولة العبيدِية.

ظهرت الدولة العبيدية في بلاد المغرب العربي سنة (296هـ= 909م)؛ أي: قبل سنة (300هـ=913م) [5] (نهاية الفترة الثانية من الإمارة الأموية) بأربع سنوات فقط، وكانت دولةً شيعيةً خبيثةً؛ همُّها الأول قَتْل علماء السُّنَّة في بلاد المغرب العربي، ومحاولة نشر نفوذها في هذه المنطقة، فانتشرت بصورة سريعة من بلاد المغرب إلى الجزائر وتونس، ثم إلى مصر والشام والحجاز وغيرها.
وأعلن ابن حفصون الطاعة لعبيد الله المهدي[6]، ولا شَكَّ أن ذلك لم يكن حبًّا في العبيدين؛ ولكن احتياجًا لمددهم وأموالهم.

خامسًا: تَردِّي الأوضاع في بقية أقطار العالم الإسلامي

إذا تخطَّيْنَا بلاد الأندلس وألقينا نظرة على مجمل أقطار العالم الإسلامي في الشرق والغرب وجدنا ما يلي:
مصر والشام يحكمها الإخشيديون، الموصل يحكمها ابن حمدان، البحرين واليمامة يحكمها القرامطة، أصبهان يحكمها بنو بويه، خراسان يحكمها نصر الساماني، طبرستان يحكمها الدَّيْلَم، الأهواز يحكمها البُريديون، كرمان يحكمها محمد بن إلياس، الدولة العباسية أو الخلافة العباسية لا تحكم إلاَّ بغداد فقط، ولا تبسط سيطرتها حتى على أطراف العراق.

هكذا كان الوضع في أقطار العالم الإسلامي؛ لم يكن هناك أيُّ أمل في أيِّ مدد إلى بلاد الأندلس؛ حيث كانت كلها أقطار مشتتة ومفرقة، ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله!

المنحة في ظل المحنة

وإن الناظر إلى بلاد الأندلس في ذلك الوقت ليرى أنه لا محالة من انتهاء الإسلام فيها، وأن ما هي إلا بضعة شهور أو سنوات قلائل حتى يدخل النصارى إلى الأندلس ويُحكِموا قبضتَهم عليها، ولن تُنقَذَ إلاَّ بمعجزة جديدة مثل معجزة عبد الرحمن الداخل -رحمه الله-.

وبالفعل فإن الله I بمنِّه وجُودِه أنعم على المسلمين بتلك المعجزة للمرَّة الثانية، فمَنَّ عليهم بأمير جديد، وحَّد الصفوف وقوَّى الأركان، وأعلى من شأن بلاد الأندلس حتى أصبحت في عهده أقوى ممالك العالم على الإطلاق، وأصبح هو أعظم ملوك أوربا في زمانه بلا منازع، إنه عبد الرحمن الناصر.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
همسة قلم
اديبة


انثى
تاريخ التسجيل : 17/11/2013
عدد المشاركات : 13947
نقاط التقييم : 14510
بلد الاقامة : لبنان
علم بلدك : Lebanon لبنان

زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي )   زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Emptyالأحد ديسمبر 08, 2013 7:50 pm

رأينا كيف كان الوضع أواخر عهد الضعف من الإمارة الأموية، وكيف أن الناظر إلى بلاد الأندلس في ذلك الوقت يرى أنه لا محالة من انتهاء الإسلام فيها، وأنها ما هي إلاَّ بضعة أشهر أو سنوات قلائل حتى يدخل النصارى الأندلسَ ويُحكِمُوا قبضتهم عليها.

عبد الرحمن الناصر (277-350هـ= 891-961م)

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

هو أمير المؤمنين الناصر لدين الله أبو المطرف عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله المرواني، وأُمُّه أمُّ ولدٍ تُسمَّى (ماريا) أو (مرته أو مزنة)، وجِدُّه السادس هو عبد الرحمن بن معاوية الأموي - صقر قريش - وقد وُلِدَ في قُرْطُبَة وعاش بها.

نشأ عبد الرحمن بن محمد يتيمًا؛ فعندما كان عُمرُه عشرين يومًا قَتَلَ عمُّه أباه؛ لأنه كان مؤهلاً للإمارة بعد أبيهما عبد الله الأمير السابع من أمراء الأمويين بالأندلس، وفتح الصبي عينيه على الدنيا ليجد الحياة قاتمة أمامه، ولم يكن البلاط الأموي المشغول بكثير من الأحداث -من ثورات داخلية ومطامع خارجية- لِيشغلَ نفسه بطفل صغير كهذا، غير أن جدَّه الأمير عبد الله -الذي اتصف بالورع والتقوى والتقشف وحب الناس، وكان على درجة عالية من التدين- هذا الجد هو الذي تولَّى تربيته، فنال الصبي الصغير نصيبًا كبيرًا من رعايته، وكان جزاءُ عَمِّه القتل، فقد قتله أبوه عبد الله، بعد أن تأكد من براءة أخيه مما اتُّهم به، ثم اهتم الأمير عبد الله بحفيده اهتمامًا كبيرًا وأولاه عناية خاصة[1]؛ ولعلَّ ذلك عطفٌ وشفقةٌ عليه بعد مقتل أبيه، ونشأ عبد الرحمن في هذا الجو المليء بالأحداث المتتابعة.

وكان عبد الرحمن من ناحيته فتى شديد النجابة والنبوغ، وأبدى بالرغم من حداثته تفوقًا في العلوم والمعارف إلى درجة تسمو على سنه، ودرس القرآن والسُّنَّة وهو طفل لم يجاوز العاشرة، وبرع في النحو والشعر والتاريخ، ومهر بالأخص في فنون الحرب والفروسية، حتى كان جده يُرَشِّحه لمختلف المهام، ويندبه للجلوس مكانه في بعض الأيام والأعياد لتسليم الجند عليه، وهكذا تعلَّقت آمال أهل الدولة بهذا الفتى النابه، وأضحى ترشيحه لولاية العهد أمرًا واضحًا مقضيًّا، بل يقال: إن جده قد رشحه بالفعل لولاية عهده، وذلك بأن برئ بخاتمه إليه حينما اشتدَّ عليه المرض كإشارة باستخلافه[2].

ولاية العهد لعبد الرحمن الناصر

لا شَكَّ أن سيرة عبد الرحمن الداخل -الجد الأكبر لعبد الرحمن- كانت تلهمه، كما أن قصة تأسيسه للدولة الأموية بعد عناء وجهاد وإرادة فولاذية كانت نصب عين عبد الرحمن، وهو يخوض ما يمكن أن نُسَمِّيَه رحلة التأسيس الثاني.

ومن الطرائف التي تندر في التاريخ أن أحدًا من أعمام عبد الرحمن، ولا من أعمام أبيه، حاول أن يعترضه في المنصب أو ينازعه فيه[3]، بل كانوا أول مَنْ بايعوه حتى تكلم بلسانهم عمه أحمد بن عبد الله قائلاً: «والله! لقد اختارك الله على علم للخاص منا والعام، ولقد كنتُ أنتظر هذا من نعمة الله علينا، فأسأل الله إيزاع الشكر، وتمام النعمة، وإلهام الحمد»[4].

وقفات مع عبد الرحمن الناصر

إن دراسة كافَّة جوانب حياة عبد الرحمن الناصر لَتحتاج إلى دراسة جادَّة متأنِّية، وعناية خاصَّة تَفُوق هذه السطور، إلا أن هناك بعض الإشارات العامَّة رأينا أن نقف أمامها بعض الشيء، فحينما تولى الحُكم كان يبلغ من العمر اثنتين وعشرين سنةً هجريةً[5]؛ أي: إحدى وعشرين سنةً ميلادية، وبِلُغَةٍ أخرى فهو طَالِبٌ بالفرقة الثالثة أو الرابعة بالجامعة في أيامنا هذه، هذه واحدة.

أمَّا الثانية فإنه يُخطئ مَنْ يَظُنُّ أن تاريخ عبد الرحمن الناصر -رحمه الله- يبدأ منذ هذه السن أو منذ ولايته هذه على البلاد، فقد رُبِّي عبد الرحمن الناصر منذ نعومة أظافره تربية قلَّما تتكرَّر في التاريخ.

لم يكد يرى عبد الرحمن الناصر نورَ الدنيا حتى قُتِلَ أبوه، وهو بعدُ لم يبلغ من العمر إلا ثلاثة أسابيع فقط؛ ومن ثَمَّ قام على تربيته جدُّه الأمير عبد الله بن محمد، فربَّاه –رحمه الله- ليقوم بما لم يستطع هو القيام به، ربَّاه على سعة العلم وقوة القيادة، وحب الجهاد، وحُسن الإدارة؛ ربَّاه على التقوى والورع، ربَّاه على الصبر والحلم وعلى العزة والكرامة، ربَّاه على العدل مع القريب والبعيد، ربَّاه على الانتصار للمظلوم، ربَّاه ليكون عبدَ الرحمن الناصر.

وهي رسالة إلى كل آباء المسلمين وأُولي الأمر منهم: إن لم نكن نحن عبد الرحمن الناصر فليكن أبناؤنا عبد الرحمن الناصر، وإذا كان كل مولود يُولَد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه؛ فما بال تربية أبنائنا اليوم؟! هل نأمرهم بالصلاة عند سبع ونضربهم عليها عند عشر؟! هل نُحَفِّظ أبناءَنا القرآن، أم ندعهم يتعلمون اللغات فقط، ويحفظون الأغاني، وينشغلون بالكرتون؟! وتُرَى ما قدوة أولادنا الآن؟ وبمَنْ يتمثَّلون ويُريدون أن يكونوا مثلهم؟! أعباء ضخمة، ولكن: «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ»[6].

والثالثة أنَّ عبد الرحمن الناصر -رحمه الله- حين تولَّى الحُكم كان على ثقةٍ شديدةٍ بالله U، وفي الوقت ذاته على ثقةٍ شديدةٍ بنفسه، وأنه قادر على أن يُغَيِّر، فهو يعي قول الله تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 160]. فلم يدخل قلبَه يومًا شكٌّ أو يأسٌ أو إحباطٌ من صعوبة التغيير أو استحالته، أو أنَّه لا أمل في الإصلاح.. فقام وهو ابن اثنين وعشرين عامًا، وحمل على عاتقه مهمَّة ناءت بها السموات والأرض والجبال؛ مهمَّة هي من أثقل المهام في تاريخ الإسلام.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
همسة قلم
اديبة


انثى
تاريخ التسجيل : 17/11/2013
عدد المشاركات : 13947
نقاط التقييم : 14510
بلد الاقامة : لبنان
علم بلدك : Lebanon لبنان

زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي )   زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Emptyالأحد ديسمبر 08, 2013 7:51 pm

عبد الرحمن الناصر وتغيير التاريخ

يتولَّى عبد الرحمن الناصر الحُكم ويقوم بأمر الإمارة, فإذا به -وسبحان الله- يُحيل الضعف إلى قوَّة, والذلَّ إلى عزَّة, والفُرقَة إلى وَحْدَة, ويُبَدِّد الظلام بنور ساطع يُشرق في كل سماء الأندلس تحت مجدٍ وسيادةٍ وسلطان.

بعد تَوَلِّي عبد الرحمن الناصر الحُكم -وبهذه المؤهلات السابقة, وبهذه التربية الشاملة لكل مقوِّمَات الشخصية الإسلامية السوِيَّة, وبهذه الثقة الشديدة بالله وبنفسه- أقدم على تغيير التاريخ, فقام بما يلي:
أولاً: إعادة توزيع المهام والمناصب وإسناد الأمر إلى أهله

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

حين تولَّى الحُكمَ لم يكن عبد الرحمن الناصر يملك من بلاد الأندلس سوى قُرْطُبَة وما حولها من القرى[1], ورغم أنها تُعَدُّ أكبر بلاد الأندلس, وتُمثِّل مركز ثقل كبير لكونها العاصمة, إلا أنها لم تكن تمثِّل أكثر من عُشْرِ مساحة الأندلس, وبدأ عبد الرحمن الناصر من هذه المساحة الصغيرة يُغَيِّر من التاريخ.

فقام بتغيير البطانة التي حوله -أو فريق العمل بمصطلحاتنا الآن- فعزل مَنْ رآه غير صالح للمنصب الذي هو فيه, وولَّى مَنْ رأى فيهم الكفاءة والمقدرة وحُسن تدبير الأمور[2].

ثم أعلى من شأن العلماء, ورفع منزلتهم فوق منزلته نفسه, ورضخ لأوامرهم ونواهيهم, فطبَّق ذلك على نفسه أولاً قبل أن يُطَبِّقه على شعبه, واجتهد قدر طاقته في تطبيق بنود الشريعة.

ولقد وَرَدَ أن عبد الرحمن الناصر –رحمه الله- كان يحضر خطبة الجمعة, وكان يخطبها المنذر بن سعيد, وكان من أكبر علماء قُرْطُبَة في ذلك الوقت, وكان شديدًا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, حتى على عبد الرحمن الناصر -رحمه الله- الخليفة والأمير, وكان عبد الرحمن الناصر قد بنى لنفسه قصرًا كبيرًا, فأسرف المنذر في الكلام, وأسرع في التقريع لعبد الرحمن الناصر لبنائه ذلك القصر.

وحين عاد عبد الرحمن الناصر إلى بيته قال: «والله! لقد تعمَّدني منذر بخطبته, وما عَنى بها غيري, فأَسرَفَ عليَّ, وأَفرَط في تقريعي, ولم يُحْسِن السياسة في وعظي؛ فزعزع قلبي, وكاد بعصاه يقرعني».

وهنا أشار عليه رجل ممن كانوا حوله بعزله عن خطبة الجمعة, فردَّ عليه عبد الرحمن الناصر قائلاً: «أَمِثْلُ منذر بن سعيد في فضله وخيره وعلمه يُعزَل؟! يُعزَل لإرضاء نفسٍ ناكبةٍ عن الرشد, سالكةٍ غيرَ قصد؟! هذا والله لا يكون, وإني لأستحي من الله ألا أجعل بيني وبينه في صلاة الجمعة شفيعًا مثل منذر في ورعه وصِدْقِه». وما عزله حتى مات[3].

وعلى مثل هذه المبادئ وهذه المعاني بدأ عبد الرحمن الناصر يُربِّي أهل قُرْطُبَة, وكان في انصياعه هو قدوة للناس جميعًا.

ثانيًا: القضاء على الثورات

بعد الانتهاء من الشأن الداخلي في قُرْطُبَة وتهيئته تمامًا بدأ عبد الرحمن الناصر -رحمه الله- يتجه إلى المحيط الخارجي؛ حيث الثورات المتعدِّدة في كل أرض الأندلس, فأرسل حملة يقودها عباس بن عبد العزيز القرشي إلى قلعة رباح, التي كان قد ثار فيها واحد من زعماء البربر يُدعى الفتح بن موسى بن ذي النون, ومعه حليف قوي آخر يُدعى «أرذبلش», وبعد معارك شديدة هُزم الفتح بن موسى وقُتل أرذبلش, وبعث برأسه إلى قُرْطُبَة حيث علَّقها الناصر على باب السدة لإرهاب الثائرين, وطهرت قلعة رباح وما حولها من الثورة.. كان ذلك في ربيع الآخر من عام (300 هـ), أي بعد شهر واحد من جلوسه على كرسي الملك.

ثم أرسل سرية أخرى في جمادى الأولى إلى الغرب فاستردت مدينة إِسْتِجَة, التي كان يُسيطر عليها أتباع ابن حفصون, فحققت النصر على العصاة, وهدمت أسوار المدينة وقنطرتها الواقعة على نهر شنيل؛ لتعود معزولة لا يمكنها أن تثور مرَّة أخرى.

ثم خرج عبد الرحمن الناصر بنفسه قائدًا على حملة عسكرية, فكان في توليه القيادة ما أثار نفوس الجنود بالحماسة والعزم, وتوجَّه بها إلى عُمَر أو صمويل بن حفصون (240-306هـ=855-919م)[4] وكان لتبكيره إليه ونهوضه إليه بنفسه ثلاثة أسباب:
الأول: أن هذا الرجل لا يختلف اثنان على أنه يستحقُّ القتل؛ وذلك لأنه ارتدَّ عن دين الله , وفارق جماعة المسلمين بخروجه عليهم؛ ومن ثَمَّ فقد أصبح قتاله فرضًا على المسلمين.
والثاني: أن ابن حفصون كان الثائر الأقوى والتهديد الأكبر من بين الثائرين في الجزيرة, وتركه على حاله ومواجهة صغار الثائرين, يُقَوِّي مركزه, كما يُقَوِّي نفوس الثائرين الآخرين, ويضع صورة الحكم في قُرْطُبَة في حرج شديد, إذا ظهر أنها تتأخَّر عن مواجهته.
والثالث: أنه يستطيع بذلك أن يحفِّزَ أهل قُرْطُبَة الذين كانوا قد ألفوا الثورات في هذه الآونة؛ حيث المعركة في منتهى الوضوح؛ فهي بين المسلمين والمرتدين.

في الطريق للقضاء على ثورة صمويل بن حفصون

استمرَّ مدى هذه الحملة طيلة ثلاثة أشهر كاملة؛ هي شعبان ورمضان وشوال من سنة (300هـ= 913م) في العام نفسه الذي تولَّى فيه –رحمه الله, واستردَّ فيها مدينة جَيَّان, وهي من المدن الحصينة في الأندلس, كما استردَّ فيها زهاء سبعين حصنًا من أمهات المعاقل الثائرة, وهزم فيها جيوش ابن حفصون هزائم منكرة[5].

ولكن ما زالت قوة صمويل بن حفصون كبيرة جدًّا؛ فالمدد يأتيه من الشمال من دول النصارى, ويأتيه -أيضًا- من الجنوب من الدولة العبيدية (الفاطمية), هذا فضلاً عن إمدادات مدينة إِشْبِيلِيَة, التي كان عليها حاكم مسلم من بني حجاج, لكنه كان متمرِّدًا على سلطة قُرْطُبَة, وكان يملك جيشًا مسلمًا كبيرًا.
وفكَّر عبد الرحمن الناصر كثيرًا في كيفية قطع هذه الإمدادات عن صمويل بن حفصون, واهتدى أخيرًا في أن يبدأ بالهجوم على مدينة أشبيلية أكبر مدن الجنوب بعد قُرْطُبَة؛ وذلك بمنطق النزعة الإسلامية التي غلبت عليه؛ حيث أَمَّل إن هو ذهب إلى إِشْبِيلِيَة واستطاع أن يُرغِم حَاكِمَها على الانضمام له, أو الانصياع إليه بالقوة أن ينضم إليه جيش إِشْبِيلِيَة المسلم الكبير, وبذلك تقوى جيوش الدولة الأموية, وتقوى شوكته.

وبالفعل -وبعونٍ من الله- كان له ما أمَّل؛ حيث ذهب إلى إِشْبِيلِيَة بعد أقل من عام واحد من ولايته في سنة (301هـ= 914م), واستطاع أن يضمَّها إليه؛ فقويت بذلك شوكته وعظم جانبه, فعاد إلى صمويل بن حفصون بعد أن قطع عنه المدد الغربي الذي كان يأتيه من إِشْبِيلِيَة, واستردَّ منه جبال رُنْدة ثم شَذُونَة ثم قَرْمُونَة[6], وهي جميعًا من مدن الجنوب.

تعمَّق عبد الرحمن الناصر بعد ذلك ناحية الجنوب حتى وصل إلى مضيق جبل طارق فاستولى عليه, ويكون بذلك -أيضًا- قد قطع الإمدادات والمساعدات التي كانت تأتيه من الجنوب من الدولة العبيدية (الفاطمية) عن طريق مضيق جبل طارق, وسعى عبد الرحمن الناصر إلى أكثر من هذا؛ حيث قطع -أيضًا- طريق الإمدادات التي كانت تأتيه من الدول النصرانية في الشمال عن طريق المحيط الأطلسي, ثم مضيق جبل طارق, ثم البحر الأبيض المتوسط, ثم إنه وجد في البحر مراكب لابن حفصون كانت تأتيه بالمدد من بلاد المغرب العربي فأحرقها؛ وبذلك يكون عبد الرحمن الناصر قد قطع عن صمويل بن حفصون كل طرق الإمدادات والمساعدات التي كانت تمدُّه وتُقَوِّيه[7].

ولم يجد صمويل بن حفصون بُدًّا من طلب الصلح والمعاهدة من عبد الرحمن الناصر على أن يُعطيه اثنين وستين ومائة حصن من حصونه, ولأن البلاد كانت تشهد موجة من الثورات والانقسامات يُريد عبد الرحمن الناصر أن يتفرَّغ لها, فضلاً عن أنه سيضمن في يده اثنين وستين ومائة حصن, وسيأمن جانب عدوِّه؛ فقد قَبِلَ المعاهدة ووافق على الصلح مع صمويل بن حفصون[8].

عبد الرحمن الناصر يُفاجئ الجميع ويتجه نحو الشمال الغربي

أصبحت قوَّة عبد الرحمن الناصر -رحمه الله- تضمُّ قُرْطُبَة وإِشْبِيلِيَة وجَيَّان وإِسْتِجَة, وهي جميعًا من مدن الجنوب, إضافة إلى حصون أخرى كثيرة - كما ذكرنا - وكل هذه المساحة كانت تُمَثِّل تقريبًا سُدُسَ مساحة الأندلس الإسلامية في ذلك الوقت, هذه أولاً.
وثانيًا: أن صمويل بن حفصون ما زال يملك حصونًا كثيرة, ويُسيطر سيطرة كاملة على الجنوب الشرقي من البلاد, لكن قُطِعت عنه الإمدادات الخارجية؛ سواء من النصارى أو الدولة العبيدية (الفاطمية) أو إِشْبِيلِيَة, فصار خطره محدودًا بالمقارنة بالحال من قبل.
وثالثًا: كان هناك تمرُّد في طُلَيْطِلَة (تقع في شمال قُرْطُبَة), ورابعًا: تمرُّد في سَرَقُسْطَة في الشمال الشرقي, وخامسًا: تمرُّد في شرق الأندلس في بَلَنْسِيَة, وسادسًا: تمرُّد في غرب الأندلس يقوده عبد الرحمن الجِلِّيقي.
أي أن الأندلس في عام (302هـ= 915م) كانت مقسمة إلى ستة أقسام؛ قسم واحد فقط في يد عبد الرحمن الناصر, ويضمُ قُرْطُبَة وإِشْبِيلِيَة وما حولهما, بما يُقارب سدس مساحة الأندلس -كما ذكرنا- والخمسة الأخرى مُوَزَّعة على خمسة متمردين, والمتوقَّع - إذًا - أن يحاول عبد الرحمن الناصر من جديد مقاومة أحد مراكز التمرُّد هذه, وبخاصة الأقرب منه.


وإن المرء ليقف متعجِّبًا حين يعلم أن عبد الرحمن الناصر ترك كل هذه التمرُّدات, واتَّجه بصره صوب الشمال الغربي؛ صوب مملكة ليون النصرانية مباشرة, فأرسل أحد قادته, فانتصر وغنم وسبى, ثم عاد في العام نفسه, غير أن النصارى أرادوا الانتقام لهزيمتهم, فعادوا لمهاجمة ديار المسلمين, فأُرْسِلَتْ إليهم صائفة في العام التالي, غير أن المسلمين هُزموا فيها, فتجرَّأ النصارى من بعدُ على مهاجمة الثغور, فأرسل عبد الرحمن الناصر إليهم في العام التالي جيشًا قويًّا أوقع بهم هزيمة مريرة[9].

فكأنه أراد أن يُعَلِّم الناس أمرًا ويُرسل إليهم برسالة في منتهى الوضوح كانت قد خَفِيَتْ عليهم؛ مفادها: أن الأعداء الحقيقيين ليسوا المسلمين في الداخل, إنما هم النصارى في الشمال؛ مملكة ليون, ومملكة نافار, وبهذا العمل استطاع عبد الرحمن الناصر -رحمه الله- إحراج المتمردين إحراجًا كبيرًا أمام شعوبهم, كما استطاع أن يُحَرِّك العاطفة في قلوب الشعوب نحوه, وكذلك تتحرك عواطف الشعوب نحو مَنْ يُدافع عن قضاياها الخارجية, ونحو مَنْ يحارب أعداءها الحقيقيين.

وهذه نصيحة إلى أولياء أمور المسلمين بألا يتهاونوا بعواطف الشعوب, وأن يُقَدِّروها حقَّ قدرها, وأن يستميلوها بالتوجُّه نحو الأعداء الحقيقيين, بدلاً من الصراع مع الجار أو القُطر المسلم, فإذا كانت القضية هي فلسطين, أو الشيشان, أو كشمير, أو غيرها من قضايا المسلمين كانت الوَحْدة والتجمُّع, وكان الانسجام وعدم الفُرقة.

لم يمضِ عامان آخران حتى جاءته هدية من رب العالمين, ألا وهي موت صمويل بن حفصون مرتدًا وعلى نصرانيته في سنة (306هـ=919م), ذلك الثائر الأخطر في تاريخ الأندلس منذ الفتح, والذي ظلَّت ثورته تؤرِّق بلاط العاصمة الأندلسية ثلاثين عامًا, وكانت هذه بداية النهاية لمعاقل ابن حفصون التي تنازعها أولاده فافترقوا, ومنهم مَنِ انحاز إلى الناصر, فسهل على الناصر بعد مجموعة من المعارك الاستيلاء على كل معاقل ابن حفصون وتطهيرها في عام (316 هـ) [10].

عبد الرحمن الناصر وتوحيد الأندلس

لم يلتقط عبد الرحمن الناصر -رحمه الله- أنفاسه, وقام في سنة (308هـ= 921م) بالتحرُّك نحو نصارى الشمال بجيش كثيف, وفي طريقه نحو الشمال خاف صاحب طُلَيْطِلَة المستقل بها أن يغزوه عبد الرحمن فخرج بجيشه مع الناصر مُظهرا الطاعة, واتجه الجيشان نحو غزو الشمال[11], بعدها أصبح الطريق آمنًا نحو الشمال مباشرة؛ حيث سَرَقُسْطَة في الشمال الشرقي وطُلَيْطِلَة في وسط الشمال قد أصبحتا في يده.

وفي العام نفسه (308هـ= 921م) وعمره – آنذاك - ثلاثون سنة فقط, قام عبد الرحمن الناصر على رأس حملة ضخمة جدًّا باتجاه نصارى الشمال, فكانت غزوة موبش الكبرى بين عبد الرحمن الناصر من جهة, وجيوش ليون ونافار مجتمعة من جهة أخرى, واستمرَّت هذه الغزوة طيلة ثلاثة أشهر كاملة, حقق فيها عبد الرحمن الناصر انتصارات ضخمة وغنائم عظيمة, وضمَّ إليه مدينة سالم وكانت تحت يد النصارى[12].

وبعد أربعة أعوام من غزوة موبش وفي سنة (312هـ= 924م) قام عبد الرحمن الناصر-رحمه الله- بنفسه بحملة ضخمة أخرى على مملكة نافار, واستطاع في أيام معدوداتٍ أن يكتسحها اكتساحًا, ويضم إلى أملاك المسلمين مدينة بنبلونة عاصمة نافار, ثم بدأ بعدها يُحَرِّر الأراضي التي كان قد استولى عليها النصارى في عهد ضعف الإمارة الأُموية.

وفي سنة (316هـ=928م) أرسل عبد الرحمن الناصر حملة أخرى إلى شرق الأندلس؛ لقمع التمرد الذي كان هناك, وضَمَّها بالفعل إلى أملاكه, ثم في العام نفسه أرسل حملة أخرى إلى غرب الأندلس فاستطاعت هزيمة عبد الرحمن الجِلِّيقي؛ ومن ثَمَّ ضمَّ غرب الأندلس إلى أملاكه من جديد[13].

وبذلك وبعد ستة عشر عامًا من الكفاح المضني يكون –رحمه الله- قد وحَّد الأندلس كلها تحت راية واحدة؛ وحَّدها جميعًا ولم يتجاوز عمره آنذاك ثمانية وثلاثين عامًا بعدُ.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
همسة قلم
اديبة


انثى
تاريخ التسجيل : 17/11/2013
عدد المشاركات : 13947
نقاط التقييم : 14510
بلد الاقامة : لبنان
علم بلدك : Lebanon لبنان

زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي )   زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Emptyالأحد ديسمبر 08, 2013 7:52 pm

إعلان الخلافة الأموية

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

نظر عبد الرحمن الناصر -رحمه الله- إلى العالم الإسلامي من حوله، فوجد الخلافة العباسية قد ضَعُفت، وكان المقتدر بالله الخليفة العباسي في ذلك الوقت قد قُتِل على يد مؤنس المظفر التركي، وقد تولَّى الأتراك حكم البلاد فِعْليًّا، وإن كانوا قد أجلسوا الخليفة العباسي القادر بالله على كرسي الحُكم.

ثم نظر الناصر لدين الله إلى الجنوب فوجد العبيديين (الدولة العبيدية الفاطمية) قد أعلنوا الخلافة، وسمَّوا أنفسهم أمراء المؤمنين، فرأى أنه - وقد وحَّد الأندلس، وصنع هذه القوة العظيمة - أحق بهذه التسمية وبذلك الأمر منهم؛ فأطلق على نفسه لقب أمير المؤمنين، وسمى الإمارة الأموية بالخلافة الأموية[1].
ومن هنا يبدأ عهد جديد في الأندلس هو عهد الخلافة الأموية، وذلك ابتداء من عام (316هـ= 928م) وحتى عام (400هـ= 1010م)؛ أي: نحو أربع وثمانين سنة متصلة، وهو يُعَدُّ (عهد الخلافة الأموية) استكمالاً لعهد الإمارة الأموية، مع فروق في شكليات الحكم وقوة السيطرة والسلطان لصالح الأخير.

حملات عبد الرحمن الناصر التوسعية

بعد ثلاث سنوات من إعلان الخلافة الأموية سنة (319هـ= 931م) اتجه عبد الرحمن الناصر جنوبًا نحو مضيق جبل طارق، وقام بغزو بلاد المغرب وحارب العبيديين (الفاطميين) هناك، فضم سَبْتَة وطَنْجَة إلى بلاد الأندلس، وتمَّت له بذلك السيطرة الكاملة على مضيق جبل طارق، فبدأ بإمداد أهل السُّنَّة في منطقة المغرب بالسلاح، لكنه لم يشأ أن يمدَّهم بالجنود؛ تحسُّبًا لهجمات ممالك النصارى في الشمال.


خيانة حاكم سرقسطة


وفي سنة (323هـ= 935م) تَحْدُث خيانة من حاكم مملكة الشمال الشرقي (سَرَقُسْطَة) محمد بن هشام التُّجِيبي؛ حيث تحالف مع مملكة (ليون) النصرانية لحرب عبد الرحمن الناصر، وبكل حزم وقوة يأخذ عبد الرحمن الناصر جيشًا كبيرًا يتصدَّى به لهذه الخيانة ويهاجم مدينة (سَرَقُسْطَة)، وعند أطراف المدينة يهاجمه جيش (سَرَقُسْطَة)، فيغزو عبد الرحمن الناصر قلعة حصينة، ويمسك بقوَّاد هذا الجيش، ويقوم بإعدامهم على الفور أمام أعين الجميع في عمل لا يُوصف إلاَّ بالكياسة والحزم.


وهنا أعلن حاكم (سَرَقُسْطَة) محمد بن هشام التُّجِيبي ندمه وعودته إلى عبد الرحمن الناصر، وكعادة الأبطال الدُّهاة والساسة الحكماء قَبِلَ منه –رحمه الله- اعتذاره، ثم أعاده حاكمًا على (سَرَقُسْطَة)؛ رابحًا بذلك كل قلوب التجيبيين بعد أن كان قد تمكن منهم، متشبهًا في ذلك برسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال لأهل مكة بعدما دخلها فاتحًا، وكانوا قد طردوه منها وآذوه هو وأصحابه: «اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ»[2].


وبمنطق الحزم وقت الحزم والعفو عند المقدرة عَمِلَ عبد الرحمن الناصر؛ فأطلق حُكَّام (سَرَقُسْطَة) بعد أن أعلنوا توبتهم، وأعاد التجيبيين إلى حكمهم؛ وفي سنة (326هـ=937م) بعث عبد الرحمن الناصر من سَرَقُسْطَة بحملة إلى أرض العدوِّ في الشمال، بقيادة نجدة بن حسين الصقلبي وأمر محمد بن هشام التجيبي بالخروج معه؛ اختبارًا لوفائه بالعهد، فخرج معه محمد، وقامت الحملة بواجبها؛ فاستولت على مدن وحصون، وهزمت النصارى هزيمة كبيرة، وعادت محملة بالغنائم إلى سَرَقُسْطَة[3].
[b]

موقعة الخندق أو سمورة


أن تسير الأمور هكذا على الدوام أمر في غاية الصعوبة، فليس هناك بشر لا يُخطئ، ولكل جواد كبوة. هذه ليست مبررات لما سيأتي بقدر ما هي بحث في العلَّة والسبب في محاولةٍ لتجنُّبه وتفاديه ما دام سَلَّمنا أنه من شِيَم البشر؛ ففي سنة (327هـ= 939م) وبعد سبع وعشرين سنة من بداية عهد عبد الرحمن الناصر كانت قوَّة الجيش الإسلامي قد بلغت شأوًا عظيمًا؛ حيث ناهزت المائة ألف مقاتل، والأندلس آنذاك تحت راية واحدة، أخذ عبد الرحمن الناصر هذا الجيش العظيم متجهًا إلى مملكة (ليون) النصرانية ليحاربهم هناك[4].


وفيما أشبه غزوة حُنَين تدور واحدة من أشرس وأعنف المعارك على المسلمين، سُمِّيَت بموقعة الخندق، وبانتهاء المعركة كان نصف عدد الجيش (خمسون ألفًا) بين القتل والأسر، وفرَّ عبد الرحمن الناصر مع النصف الآخر عائدين بأكبر خسارة وأثقل هزيمة.


وأرجع المؤرخون سبب الهزيمة إلى أن بعض المسلمين كانوا يجدون في قلوبهم من عبد الرحمن الناصر، فقبعوا للصفوف، وسارعوا في الهرب، وجرُّوا على المسلمين الهزيمة وأوبقوهم[5].


إلا أننا نعتقد أن الأمر ليس بهذه البساطة الظاهرة، ونرى أن الدولة التي بلغت هذا القدر من القوة، وخرج منها هذا الجيش المجهز، وتوالي انتصاراتها السابقة قد يكون أوقع في نفس عبد الرحمن الناصر ما كان قد وقع من قبل في نفس مَنْ هو خير منه؛ حين قالوا: «لن نغلب اليوم من قلة». فأخذ -كما أخذوا- درسًا ربانيًّا قاسيًا.


العودة إلى الجهاد


بعد موقعة سمورة أو موقعة الخندق أو خندق سمورة لم يستسلم عبد الرحمن الناصر -رحمه الله، وهو الذي رُبِّيَ على الجهاد والطاعة لربِّه ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، فعَلِمَ مواضع الخلل ومواطن الضعف، ومن جديد تدارك أمره، وقام ومعه العلماء والمربُّون يُحَفِّزون الناس.


ومن جديد أعدُّوا العُدَّة وقاموا بحرب عظيمة على النصارى سنة (329هـ=941م) تلتها حملات مكثفة وانتصارات تلو انتصارات، ظلَّت من سنة (329هـ=941م) إلى سنة (335هـ=947م) حتى أيقن النصارى بالهلكة، وطلب ملك (ليون) الأمان والمعاهدة على الجزية، يدفعها لعبد الرحمن الناصر عن يدٍ وهو صاغر[6]، وكذلك فعل ملك نافار فدفعوا جميعًا الجزية ابتداءً من سنة (335هـ=947م)، وإن لم يمنع هذا من نقض ونشوب بعض الحروب خلال هذه الفترة وحتى آخر عهده / سنة (350هـ=961م).

[/b]
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
همسة قلم
اديبة


انثى
تاريخ التسجيل : 17/11/2013
عدد المشاركات : 13947
نقاط التقييم : 14510
بلد الاقامة : لبنان
علم بلدك : Lebanon لبنان

زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي )   زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Emptyالأحد ديسمبر 08, 2013 7:53 pm

علاقة عبد الرحمن الناصر بشمال أفريقيا

لم تقتصر الأخطار التي كانت تُهَدِّد الدولة الإسلامية في الأندلس على ما كان في الأندلس نفسها من ثورات أتت على قواها ومواردها، ولا على ما كان يتربَّص بها من القوى الإسبانية النصرانية المتوثِّبة الطامحة للقضاء على المسلمين في الأندلس؛ بل وفي كل بقاع الأرض إن استطاعت إلى ذلك سبيلاً، لم تقتصر الأخطار المحدقة على هذا، وإنما تحالف مع هذه الأخطار وشاركها خطرٌ آخرُ يتربَّص بها في بلاد شمال أفريقيا، خطرٌ لا يقلُّ طموحًا عن طموح النصارى في الشمال، فهو -أيضًا- يتمنى السيطرة على هذه الجزيرة، وعلى ما فيها من خيرات، ويعلم أنها لن تَدِين له بشكل كامل إلا إذا اعتنقت معتقده، وتخلَّت راغبة أو راهبة عما تعتقد؛ إنه الخطر الشيعي الإسماعيلي، الذي تمثَّل في هذا الوقت في الدولة العبيدية (المعروفة زورًا بالفاطمية).

الدولة الفاطمية (العبيدية الشيعية)

أ[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

أعلن قيام هذه الدولة الخبيثة بالمغرب سنة (297هـ)، بعد نجاح أبي عبد الله الشيعي في دعوته، وجذب الأعوان والأنصار لها، وقيامه بمبايعة «عبيد الله المهدي» بالخلافة، وكان ذلك في ظلِّ انشغال الإمارة الأموية في ذلك الوقت بمواجهة الثورات، التي كانت تعصف بالأندلس من الداخل، كما كانت مشغولة بردِّ اعتداءات نصارى الشمال على أرضها، وكانت أضعف -في ذلك الوقت- من أن تُسيطر على هاتين الجبهتين معًا، فكيف إذا فُتحت عليها جبهة ثالثة؟! ثم إن بلاد شمال أفريقيا لطالما اعتُبِرَت خطَّ الدفاع الأول عن الأندلس؛ لأنها كانت دائمًا قاعدة غزو هذه البلاد.


خطر الدولة الفاطمية العبيدية

كان عبد الرحمن الناصر يعلم بكل هذه الأخطار؛ لقربه من جدِّه الأمير عبد الله، وكان مطلعًا على ما آلت إليه حال الأندلس من ضعف في الداخل والخارج، وما آل إليه حال الأعداء من قوَّة وتمكُّن، ولكنه -ومع علمه بهذا كله- لم يفعل مثل أعمامه وأعمام أبيه، ولم يترك الأمر بالكلية لغيره يتحمَّل أعباءه، وإنما تصدَّر لهذا الأمر، وقام به حقَّ القيام.

فإلى جوار المهامِّ العظيمة التي اضطلع عبد الرحمن الناصر بها منذ تَوَلِّيه الحكم، إلا إنه ومع ذلك كان منذ اللحظة الأولى يرقب كل ما يحدث في بلاد الشمال الإفريقي بعين الحرص والحذر، وأنقذه وخفَّف عنه في ذلك الوقت أن الدولة العبيدية كانت هي الأخرى مشغولة بتوطيد أركانها في المغرب؛ لأنها ما كانت تستطيع الانطلاق إلى الأندلس أو إلى مصر إلاَّ بعد أن تستقرَّ في المغرب أولاً.
ولكن استقرار هذه الدولة في المغرب سيكون على حساب الأندلس بعد ذلك.

المواجهة بين عبد الرحمن الناصر والدولة الفاطمية (العبيدية الشيعية)

لم يستطع عبد الرحمن الناصر أن يصبر حتى يقضي على كل الثورات في الأندلس قضاء مبرمًا، ولا أن يقضي على شوكة نصارى الشمال أولاً، وكذلك لم ينتظر حتى يفرغ العبيديون من أمر المغرب، ثم يأتي دور الأندلس، وإنما سارع هو إلى نقل المعركة إلى أرض المغرب؛ ليشغلهم بالمغرب عن العبور إلى الأندلس، وليستطيع تقوية مركزه في المغرب، فيتمكن من تهديد سلطان العبيديين هناك بعد ذلك، وفي ذلك براعة حربية؛ فهو بذلك يُشَتِّت جهود العبيديين العسكرية والسياسية، ويشغلهم عن الأندلس بالمغرب، ويعاقبهم على مساندتهم ومساعدتهم للثائرين عليه، بأن يُساعد هو -أيضًا- كلَّ مَنْ يسعى للخروج عليهم، ويضمُّه عبد الرحمن الناصر إليه، في حين لا يستطيع العبيديون أنفسهم أن يفعلوا ذلك.

ففي سنة (319هـ) أرسل الناصر أسطولاً قويًّا حشد له ما استطاع من رجال وعتاد، وأرسله إلى سَبْتَة فاستولى عليها من يد ولاتها بني عصام حلفاء العبيديين (الفاطميين)، ثم سارع بتحصينها، وإمدادها بالجند والسلاح، والقادة الأكفاء؛ لأنه يعلم جيدًا أن العبيديين لن يركنوا إلى الراحة والدعة، ولن يتخلَّوْا عن سَبْتَة بسهولة؛ ليس لأنها مفتاح الأندلس فحسب، ولكن لأنها إن بقيت في يد الناصر، فإنها ستُهَدِّد دولتهم الناشئة التي لم تستقرّ بعدُ، وقد عرفنا من قبلُ أهمية ميناء سَبْتَة بالنسبة للأندلس، ورأينا كيف أن موسى بن نصير لم يستطع العبور إلى الأندلس إلاَّ بعد أن أمِن خطر سَبْتَة، وها نحن الآن نعرف أهمية سَبْتَة بالنسبة للمغرب -أيضًا- لذلك لا نعجب إذا عرفنا إصرار إسبانيا على أن تبقى سَبْتَة ومليلة تحت يدها حتى الآن.

لقد كانت هذه خطوة جريئة حازمة من عبد الرحمن الناصر، أشعرت العبيديين -بلا شكٍّ- وحلفاءهم بالخوف والجزع من هذه القوة الجديدة، التي بدأ نجمها يبزغ في الأندلس، فإلى جوار الثورات التي يعمل هذا الرجل على إخمادها في بلاده، وبالرغم من وجود نصارى الشمال المتربِّصين به وبدولته، إذا به يفتح على نفسه جبهة جديدة في المغرب، وقد كان المنتظر منه أن يُسارع إلى الاستنجاد بهذه الدولة الفتية التي بدأت تظهر في المغرب؛ لتُعينه على أعدائه الكثيرين؛ لذلك فإننا نعتبر أن هذه الخطوة كانت من أكثر خطوات عبد الرحمن الناصر –رحمه الله- جُرْأة وشجاعة وحزمًا، كما كانت أكثرها دلالة على حُسن سياسته وفهمه الرائع لكيفية سير الأمور.

كان يمكن لعبد الرحمن الناصر أن يركن لهذا التقدم وهذا النصر المهم؛ فلقد شغلهم بسَبْتَة عن الأندلس، إلا أن الرجل كان قد عزم على أن يمضي في طريقه إلى النهاية، وألا تضعف همته أو تفتر، فراسل الحسن بن أبي العيش بن إدريس العلوي حاكم طَنْجَة لينزل له عن طَنْجَة؛ لتكتمل بذلك سيطرته على رأس العدوة، فرفض ابن أبي العيش ذلك، فحاصره أسطول الأندلس، وضيَّق عليه حتى اضطره إلى التسليم[1].

وفي سنة (319هـ) -أيضًا- أرسل إليه موسى بنُ أبي العافية أمير مِكْنَاسَة يحالفه ويدخل في طاعته، ويَعِدُه بالدعوة له في المغرب، وبتقريب أهل المغرب وزعمائهم منه، فتَقَبَّله عبد الرحمن أحسن قبول، وأمدَّه بالمال، وساعده في حروبه في المغرب؛ ليُقَوِّيَ مركزه[2]، وبادر على إثر ذلك زعماء الأمازيغ (البربر) من الأدارسة وزناتة إلى طاعة عبد الرحمن الناصر والدعاء له على المنابر، وامتدَّ نفوذه إلى تاهرت، وفاس.

وفي سنة (323هـ) أرسل القائم العبيدي جيشًا بقيادة ميسور الصقلبي إلى موسى بن أبي العافية، ودارت بينهما عدة معارك انهزم فيها موسى بن أبي العافية، وهرب إلى الصحراء، ثم استنجد بالناصر فأنجده، وهُزم العبيديون، وعاد لموسى بن أبي العافية ملكه في المغرب وقوي أمره[3]، كما قوي نفوذ الناصر لدين الله هناك؛ حتى إن مَنْ ثاروا على الدولة العبيدية في المغرب كانوا يُراسلونه ويعترفون له بأنه الأحق بالولاية، وكان عبد الرحمن الناصر يصلهم ويُحْسِنُ إليهم[4].

كل هذا والمعركة دائرة في المغرب، فلمَّا قويت شوكة العبيديين في المغرب، وتغلَّبُوا على ما قام عليهم من ثورات، أقدم المعز لدين الله العبيدي على ما يُشبه جسَّ نبض عبد الرحمن الناصر، فأمر أسطوله بضرب سواحل الأندلس، وبالفعل هاجمت سفن العبيديين ثغر ألمَرِيَّة سنة (344هـ)، وأحرقت ما فيه من سفن، وخَرَّبت كل ما استطاعت تخريبه، فكان ردُّ عبد الرحمن الناصر عليهم عنيفًا؛ إذ أمر فخرج أسطوله إلى سواحل الدولة العبيدية، وردَّ لهم الصاع صاعين، وعادوا سنة (345هـ) [5]، فعلم العبيديون أنه لا طاقة لهم بالأندلس، فلم يُعيدوا الكَرَّة.

وفي سنة (347هـ) اجتاحت قوات العبيديين بقيادة جوهر الصقلي المغرب الأقصى، ودخلت فاس وقتلت عامل عبد الرحمن الناصر عليها، فأسرع عبد الرحمن الناصر بتجريد حملة أندلسية عبرت إلى المغرب، واستطاعت ردَّ العبيديين على أعقابهم[6].
ثم لم يلبث عبد الرحمن الناصر أن مرض سنة (349هـ)، ثم توفي –رحمه الله- سنة (350هـ).
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
همسة قلم
اديبة


انثى
تاريخ التسجيل : 17/11/2013
عدد المشاركات : 13947
نقاط التقييم : 14510
بلد الاقامة : لبنان
علم بلدك : Lebanon لبنان

زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي )   زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Emptyالأحد ديسمبر 08, 2013 7:54 pm

عبد الرحمن الناصر وفكره العسكري

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

وَرِثَ عبد الرحمن الناصر عن جدِّه مؤسس الدولة الأموية في الأندلس عبد الرحمن الداخل -صقر قريش- مبادئ أساسية للحرب؛ منها:
مبدأ المباغتة

وقد ظهرت المباغتة في الأعمال القتالية للخليفة عبد الرحمن الناصر بشكل معقد جدًّا؛ مما يُشير إلى درجة التعقيد التي وصلتها الأعمال القتالية في أيامه، فهو يعتمد أحيانًا على المباغتة الزمنية؛ حيث يعمل على حشد القوات في ظاهر قُرْطُبَة خلال مرحلة مبكرة عمَّا هو معهود في توجيه الصوائف للغزو، وأحيانًا أخرى يلجأ إلى المباغتة المكانية؛ حيث يُضلِّل أعداءه ليظهر في مكان غير متوقَّع من مسرح العمليات؛ بحيث لا يعرف أعداءُ الشمال نوايا الناصر، وإلى أين سيُوَجِّه ثِقَلَ قوات الهجوم، وفي أحيان -أيضًا- تأخذ المباغتة عند الناصر شكل مباغتة على مستوى العمليات، وأحيانًا على المستوى الاستراتيجي، إذ لم يكن التوجُّه إلى عواصم دول الشمال (ليون ونافار) إلا نوعًا من المباغتة الاستراتيجية، كما أن طريقة زجِّ القوات وحجمها كان نوعًا من المباغتة على مستوى العمليات، وكانت مباغتة العمليات والمباغتة الاستراتيجية مميزة بشدَّة تعقيدها لما تُبرِزه متابعة مسيرة الأعمال القتالية؛ حيث تمتزج فيها المباغتة الزمنية بالمكانية بطرق زجِّ القوات لتأخذ شكلاً متقدِّمًا ومتطورًا لمفهوم المباغتة.

الموازنة بين إدارة الحرب وقيادة الأعمال القتالية

أراد الخليفة عبد الرحمن الناصر في بداية حكمه إعطاء نموذج للجهاد بنفسه، فكان يقود المعارك بنفسه مدفوعًا بإيمان الشباب وحماسته للحرب، وممارستها بصورة فعلية، إلى جانب توفُّر الرغبة لحشد قوى المسلمين وتوجيهها وإثارة حميتها، وقد حقق نجاحًا رائعًا في هذا المضمار، حتى إذا استقامت له الأمور، لم تَعُدْ هناك حاجة للإقدام على مُجازفةٍ غير محسوبة تضرُّ بالإسلام والمسلمين بأكثر مما تفيدهم، كما تبدَّى هذا في موقعة الخندق، فكان إمساك الخليفة الناصر بالإدارة العليا للحرب أكثر أهمية من قيادته للأعمال القتالية بنفسه؛ إذ سمح له ذلك بالإشراف على تنظيم الجيوش بصورة مستمرَّة، وإعادة تنظيمها -كُلَّما تطلَّبت الحاجة- وتوجيهها إلى ميادين القتال، وتحديد واجباتها بدقَّة، وتأمين متطلباتها من الإمداد والتموين.

لقد بقيت الأندلس طوال عهد الناصر لدين الله في حرب مستمرَّة ومتواصلة وعلى كافَّة الميادين والجبهات، وكان ذلك يتطلَّب تأمين موارد غير محدودة، وقد أظهرت مسيرة الأعمال القتالية أن قوات المسلمين كانت في تعاظم مستمرٍّ، وأن متطلباتها كانت متوفِّرة، ولم تظهر ولو مجرَّد ظاهرة واحدة تُشير إلى عيب أو خلل في التنظيم الإداري أو في تأمين الإمداد للمقاتلين، وليس ذلك إلا برهان ساطع على تلك الكفاءة العالية، التي ضمنت حشد الموارد الضرورية للقوات، وهو ما يُعْتَبَر في الجيوش القديمة والحديثة مقياسًا لكفاءة الإدارة المشرفة على الحرب، وهكذا فإن تخلِّي الخليفة الناصر عن إدارة القتال قد ساعده على تحقيق واجب أكبر؛ وهو الإدارة الشاملة للحرب، وتأمين متطلَّباتها، وضمان الظروف الموضوعية لتحقيق النصر.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
همسة قلم
اديبة


انثى
تاريخ التسجيل : 17/11/2013
عدد المشاركات : 13947
نقاط التقييم : 14510
بلد الاقامة : لبنان
علم بلدك : Lebanon لبنان

زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي )   زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Emptyالأحد ديسمبر 08, 2013 7:54 pm

أولًا: مملكة ليون

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

بلغت الثورات والفتن الداخلية في الأندلس ذروتها في النصف الأخير من القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي)، وبدَّدت هذه الفتن قوى الأندلس ومواردها، وضعفت الأندلس حتى عن فرض سيطرتها على كثير من أراضيها؛ مما هيَّأ لإسبانيا النصرانية فرصة عظيمة للاستقرار ولتوطيد سلطانها في المناطق الخاضعة لها، وتنمية مواردها، وتقوية جيوشها؛ فلم يأتِ القرن العاشر الميلادي حتى كانت مملكة ليون -التي خَلَفَتْ مملكة جِلِّيقِيَّة، والتي كانت تضمُّ ولاية قشتالة- قد بلغت من القوة والبأس ما يُتيح لها أن تخوض صراعًا عنيفًا مع الأندلس، وقد بلغ هذا الصراع ذروته في عهد عبد الرحمن الناصر، حتى استطاعت ليون هزيمة عبد الرحمن الناصر في موقعة شنت إشتيبن سنة (917م)؛ وذلك بالرغم من إنجازات عبد الرحمن الناصر الداخلية، وإخماده للفتن، وإحيائه لقوة الأندلس، ثم توالت غارات ليون على الأراضي الإسلامية عقب هزيمة شنت إشتيبن، حتى وفاة ملكها أردونيو الثاني سنة (925م).

أضعف موت أردونيو الثاني مملكة ليون كثيرًا؛ إذ إن أخاه فرويلا -الذي تولَّى بعده- لم يبقَ في الحكم سوى عام واحد ثم مات، ليبدأ بموته نزاع شديد بين سانشو وألفونسو وَلَدَيْ أردونيو، وفاز ألفونسو في هذا الصراع بمعاونة ملك نافار صهره وحميه، ولكن سانشو ( أخا ألفونسو) لم ييأس، فتوَّج نفسه ملكًا في شنت ياقب ( في أقاصي جِلِّيقِيَّة) وجمع جيشًا جديدًا، ثم زحف على ليون، فحاصرها واستولى عليها، وارتقى العرش مكان أخيه، فعاد ألفونسو إلى الاستعانة بملك نافار، حتى استطاع أن يهزم أخاه، وأن يعود للحكم مرَّة أخرى، فعاد سانشو إلى جِلِّيقِيَّة، وظل مصرًّا على دعواه في الملك، واستمرَّت الحرب الأهلية حتى مات سانشو عام (929م)، فاستقرَّ المُلْك لألفونسو الرابع دون منازعة، ولكن هذا الاستقرار لم يدم طويلاً؛ إذ ماتت زوجة ألفونسو الرابع فحزن لفقدها حزنًا عظيمًا، فشعر باليأس وزهد في الدنيا؛ فتنازل عن العرش لأخيه راميرو الثاني، والذي تُطلق عليه المصادر الإسلامية اسم رذمير، أما ألفونسو فإنه اعتكف في دير ساهاجون واعتنق الرهبانية.

لم يُطِقْ ألفونسو الرابع حياة الرهبانية كثيرًا، فترك الدير، ونادى بنفسه ملكًا في حصن شنت منكش، وكان هذا العمل عارًا كبيرًا في نظر الرهبان، فأثاروا عنه شائعات شديدة، حتى اضطر اضطرارًا إلى أن يعود إلى الرهبانية، ولكنه ما لبث أن انتهز فرصة مسير أخيه راميرو إلى دعم ثُوَّار طُلَيْطِلَة فغادر الدير، وزحف مع بعض أنصاره إلى مدينة ليون واستولى عليها، فعاد راميرو بجيشه مسرعًا واستولى على ليون، وسمل عين أخيه وأبناءَ عمه فرويلا الثلاثة الذين ساعدوا أخاه؛ لكي يطمئن إلى أن أخاه لن يثور عليه مجدَّدًا.

وبهذا استقرَّ المُلْك لـ راميرو، الذي كان صليبيًّا متطرِّفًا، لم يترك وسيلة يمكنه أن يضرَّ بها دولة المسلمين إلاَّ استعملها، فكان يُغير على الأراضي الإسلامية، ويُحَرِّض الثوَّار على عبد الرحمن الناصر، ويُعينهم على ذلك بما يستطيع، وهذا غير المعارك المباشرة التي كان يخوضها بنفسه ضد المسلمين، وقد سبق أن فصلنا أدوار ذلك الصراع العنيف، الذي اضطرم بين راميرو وبين عبد الرحمن الناصر، والذي بلغ ذروته في موقعة الخندق، التي دارت فيها الدائرة على المسلمين تحت أسوار مدينة سمورة سنة (327هـ= 939م).

السعي لإنشاء مملكة قشتالة

ولكي نفهم جيدًا تطورات الأحداث في ليون فإن علينا أن نقف أمام سعي قشتالة للانفصال عن جسم مملكة ليون؛ فقد كانت قشتالة في القسم الشرقي من مملكة ليون، وكان سُكَّان هذه المنطقة من البشكنس وأهل ألبة، وكان ملوك الجلالقة قد غزوها وأضافوها إلى مملكتهم، وواجهوا مقاومة عنيفة من زعماء قشتالة، الذين حاولوا قدر استطاعتهم الحفاظ على استقلالهم، ثم ثاروا في عهد أردونيو الثاني، فحاربهم وأخضعهم وأعدم بعضهم، حتى اضطر الباقون إلى الالتزام بطاعته.

استمرَّ الوضع كذلك حتى ظهور الكونت فرنان كونثالث، فحشد الكونت أنصاره وقواته وأعلن الحرب على راميرو الثاني ملك ليون، فهُزِم وأُسِر، ولكن القشتاليين استمرُّوا في الثورة والقتال، وزحفت جموعهم إلى ليون، فاضطر راميرو أن يُطلق سراح فرنان كونثالث شريطة أن يُقسم فرنان يمين الطاعة لملك ليون، وأن يتنازل عن كل أملاكه، وأن يُزوج ابنته أوراكا لأردونيو بن راميرو. ونَفَّذ فرنان كونثالث هذه الشروط، وأُطلق سراحه بالفعل، إلا أن هذا لم يُضعف من آماله وأحلامه في الاستقلال بقشتالة عن مملكة ليون.

وكان المسلمون في هذه الفترة قد عادوا للإغارة من جديد وبقوة على أراضي ليون، وقام عبد الرحمن الناصر بتجديد مدينة سالم -ثغر الحدود بين الأراضي الإسلامية وقشتالة- سنة (946م)، واضطر راميرو أمام هذه الضربات القوية أن يلتزم خطة الدفاع؛ فاستغل فرنان كونثالث هذه الأوضاع الجديدة، فعمل جاهدًا على توطيد مركزه، وضمِّ كل الزعماء القشتاليين تحت لوائه؛ ليسهل عليه الاستقلال بقشتالة بعد ذلك.

تطور الأحداث في مملكة ليون

توفي راميرو الثاني في أوائل سنة (950م)، وترك مِنْ بعده ولدين كان أكبرهم هو أردونيو، وهو من زوجته الأولى تاراسيا، وسانشو وهو من زوجته الثانية أوراكا أخت غرسية ملك نافار، وكان أردونيو -في العرف الأوربي آنذاك- هو الأحق بالعرش؛ باعتبار أنه الأكبر سنًّا، غير أن أخاه قد طمع في العرش، فاستعان بأخواله من نافار، وجدته طوطة ملكة نافار، كما تحالف مع الكونت فرنان كونثالث الذي يتوق للانفصال بقشتالة؛ ومن ثَمَّ لم يكن همه إلا أن يُضعف مملكة ليون؛ حتى لو كان ملكها هو أردونيو زوج ابنته، ومع ذلك استطاع أردونيو أن يهزم سانشو والمتحالفين معه، واستقرَّ بذلك على العرش.

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

وكانت غزوات المسلمين تتوالى في هذه الفترة على الأراضي الليونية، فاضطر أردونيو نتيجة هذه الاضطرابات الداخلية أن يطلب عقد صلح مع عبد الرحمن الناصر في أوائل سنة (955م)؛ فاشترط عليه الناصر أن يُصلح بعض القلاع الواقعة على الحدود، وأن يهدم البعض الآخر.

ثم ما لبث أن توفي أردونيو بعد ذلك بقليل، وخلفه أخوه سانشو في المُلْكِ، فرفض تنفيذ المعاهدة التي عقدها أخوه مع عبد الرحمن الناصر، فبعث الناصر جيشًا غزا ليون، فاضطر سانشو أن يعقد الصلح، وأن يُقِرَّ ما سبق أن تَعَهَّد به أخوه، وبذلك ساد الهدوء بين الفريقين لفترة.

كان المتوقع أن يسود الهدوء -أيضًا- بين فرنان كونثالث في قشتالة وبين سانشو في ليون؛ إذ وقف فرنان كونثالث في صف سانشو، حينما ثار الأخير على أخيه، ولكن ما حدث كان على خلاف ذلك؛ إذ إنَّ فرنان كونثالث لم يلبث أن انقلب على سانشو، وأصبح يُبادله الخصومة والعداوة، ولم تلبث الأحوال أن ساءت أكثر داخل مملكة ليون عندما ثار الأشراف على سانشو، ونزعوه من العرش، بحجة أنه لم يُفلح في هزيمة المسلمين، وأن بدانته المفرطة تمنعه من ركوب الخيل ومباشرة القتال بنفسه، ففرَّ سانشو إلى جدته طوطة في بنبلونة عاصمة نافار، وقام الأشراف في ليون وقشتالة باختيار ملك جديد هو أردونيو الرابع، والذي كان قد تزوج ابنة فرنان كونثالث بعدما طلقها أردونيو الثالث.

وكان هذا الملك الجديد أحدبًا دميمًا سيئ الخلق، فلقبوه بالرديء، واستنجد سانشو بعبد الرحمن الناصر، وسأله أن يساعده حتى يعود للحكم، واتفقا على أن يُرسل عبد الرحمن الناصر إليه طبيبًا يهوديًّا من قُرْطُبَة ليعالجه من بدانته، وفي سنة (347هـ= 958م) ذهبت طوطة إلى قُرْطُبَة، ومعها ابنها غرسية سانشيز، الذي كانت تُحْكَم نافار باسمه، كما ذهب معها -أيضًا- سانشو ملك ليون المخلوع، فاستقبلهم عبد الرحمن الناصر بحفاوة بالغة، وعقد السلم مع طوطة وأقرَّ ولدها على نافار، ووعد بمعاونة سانشو على استرداد عرشه، وذلك مقابل تَعَهُّده بأن يُسَلِّم للمسلمين بعض الحصون الواقعة على الحدود، وأن يهدم البعض الآخر؛ ثم أمدَّه عبد الرحمن الناصر بالمال والجند، فغزا ليون، وغزا النافاريون في الوقت نفسه ولاية قشتالة من ناحية الشرق، وانتهت الحرب بانتصار سانشو وجلوسه على العرش مرَّة أخرى، وفرَّ أردونيو إلى فرنان كونثالث في برغش.
ثم توفي عبد الرحمن الناصر بعد ذلك بقليل، ونكث سانشو بعهوده، ولم يُنَفِّذ ما اتفق عليه مع عبد الرحمن الناصر.

ثانيًا: مملكة نافار

نشأت مملكة نافار في القرن التاسع الميلادي، وتولَّى المُلْكَ فيها سانشو غرسية الأول عقب اعتزال أخيه فرتون المُلْكَ في سنة (905م)، وكان سانشو قد خاض مع المسلمين حروبًا عديدة أيام الأمير عبد الله، وفي أوائل عهد عبد الرحمن الناصر -ولما توفي سانشو- خلفه ولده غرسية سانشيز وكان طفلاً، فتولى عمه خمينو غرسيس الوصاية عليه أولاً، ثم تولَّتْ أمه الملكة طوطة الوصاية عليه، وظلَّت تحكم باسمه طويلاً حتى بعد أن كبر ونضج، وكانت نافار خلال ذلك ترتبط برباط المصاهرة مع المملكتين النصرانيتين الأخريين؛ فقد كان أردونيو الثالث ملك ليون متزوجًا من أوراكا ابنة الملكة طوطة، وأخت غرسية، وكان فرنان كونثالث كونت قشتالة متزوجًا من ابنة أخرى لطوطة، فكانت طوطة تحتل لذلك مقامًا ملحوظًا في الممالك الثلاث، وقد وقفت نافار -كما ذكرنا- إلى جانب سانشو عندما نشبت الحرب بينه وبين أخيه أردونيو على تولِّي العرش بعد وفاة أبيهما راميرو الثاني، ثم وقفت إلى جانبه ثانية بعدما خلعه أشراف ليون.

ثم اضطربت العلائق بين نافار وبين قشتالة، ونشبت بينهما حرب شديدة هُزم فيها الكونت فرنان كونثالث، وأُسر في نافار مدة طويلة ضعفت فيها شوكة نافار، ولزمت السكينة حينًا[1].
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
همسة قلم
اديبة


انثى
تاريخ التسجيل : 17/11/2013
عدد المشاركات : 13947
نقاط التقييم : 14510
بلد الاقامة : لبنان
علم بلدك : Lebanon لبنان

زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي )   زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Emptyالأحد ديسمبر 08, 2013 7:55 pm

[b]حضارة الأندلس

ما سبق كان من التاريخ السياسي والعسكري لعبد الرحمن الناصر -رحمه الله، وواقع الأمر أن جهده لم يكن كلُّه موجهًا للجيوش والحروب فقط، بل إنه كان متكاملاً ومتوازنًا -رحمه الله- في كل أموره؛ فقد قامت في عهده نهضة حضارية كبرى هي الأروع بين مثيلاتها في ذلك الوقت، استهلَّها –رحمه الله- بإنشاء هياكل إدارية عظيمة، وأَكْثَرَ من الوزارات والهيئات، وجعل لكل أمر مسئولاً، ولكل مسئول وزارة كبيرة تضمُّ عمالاً كثيرين وكتَبَة، وهذه نُبذَة عن أهم جوانب الحياة الحضارية في عصره.

الجانب المعماري

مدينة الزهراء

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

كان من أهم ما يُمَيِّز الناحية المعمارية في عهد عبد الرحمن الناصر تلك المدينة العظيمة التي أنشأها وأطلق عليها اسم مدينة الزهراء، وكانت مدينة الزهراء على طراز رفيع جدًّا، وقد استجلب لها عبد الرحمن الناصر –رحمه الله- موادًّا من القسطنطينية وبغداد وتونس ومن أوربا، وقد صُمِّمت على درجات مختلفة؛ فكانت هناك درجة سفلى؛ وهي للحراس والكَتَبَة والعمال، ثم درجة أعلى وهي للوزراء وكبار رجال الدولة، ثم أعلى الدرجات في منتصف المدينة وفيها قصر الخلافة الكبير[1].

وفي مدينة الزهراء أنشأ عبد الرحمن الناصر قصر الزهراء؛ ذلك القصر الذي لم يُبْنَ مثله حتى ذلك الوقت؛ فقد بالغ في إنشائه حتى أصبح من معجزات زمانه، فكان الناس يأتون من أوربا ومن كل أقطار العالم الإسلامي كي يشاهدوا قصر الزهراء، يقول المقري في نفح الطيب: «لما بنى الناصر قصر الزهراء المتناهي في الجلالة والفخامة، أطبق الناس على أنه لم يُبن مثله في الإسلام ألبتة، وما دخل إليها قطُّ أحد من سائر البلاد النائية والنحل المختلفة؛ من ملك وارد أو رسول وافد، وتاجر جهبذ -وفي هذه الطبقات من الناس تكون المعرفة والفطنة- إلاَّ وكلهم قَطَعَ أنه لم يَرَ له شبهًا، بل لم يسمع به، بل لم يتوهم كون مثله؛ حتى إنه كان أعجب ما يؤمله القاطع إلى الأندلس في تلك العصور النظر إليه، والتحدث عنه، والأخبار عن هذا تتسع جدًّا، والأدلة عليه تكثر، ولو لم يكن فيه إلا السطح الممرد المشرف على الروضة المباهي بمجلس الذهب والقبة، وعجيب ما تضمَّنه من إتقان الصنعة وفخامة الهمة وحسن المستشرف، وبراعة الملبس والحلة ما بين مرمر مسنون، وذهب موضون، وعمد كأنما أُفرغت في القوالب، ونقوش كالرياض، وبرك عظيمة محكمة الصنعة، وحياض وتماثيل عجيبة الأشخاص، لا تهتدي الأوهام إلى سبيل استقصاء التعبير عنها، فسبحان الذي أقدر هذا المخلوق الضعيف!» [2].

مدينة قرطبة

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

وهذه مدينة قُرْطُبَة قد اتسعت جدًّا في عهد عبد الرحمن الناصر، وبلغ تعداد سكانها نصف مليون مسلم[3]، وكانت بذلك ثاني أكبر مدينة في تعداد السكان في العالم بأسره بعد بغداد المدينة الأولى، والتي كان تعداد سكانها يبلغ مليونين[4].

يصف ابن عذاري قُرْطُبَة في هذه الفترة فيقول: «ومما قيل في آثار مدينة قُرْطُبَة وعظمها حين تكامل أمرها في مدة بني أمية -رحمهم الله تعالى-: إن عدة الدور التي بداخلها للرعية دون الوزراء وأكابر أهل الخدمة مائة ألف دار وثلاثة عشر ألف دار؛ ومساجدها ثلاثة آلاف؛ وعدة الدور التي بقصر الزهراء أربعمائة دار؛ وذلك لسكنى السلطان وحاشيته وأهل بيته...»[5].
وينقل المقري عن ابن حيان قوله: «إن عدة المساجد عند تناهيها في مدَّة ابن أبي عامر ألف وستمائة مسجد، والحمامات تسعمائة حمام، وفي بعض التواريخ القديمة كان بقُرْطُبَة في الزمن السالف ثلاثة آلاف مسجد وثمانمائة وسبعة وسبعون مسجدًا؛ منها: بشقندة ثمانية عشر مسجدًا، وتسعمائة حمام، وأحد عشر حمامًا، ومائة ألف دار، وثلاثة عشر ألف دار للرعية خصوصًا، وربما نصف العدد أو أكثر لأرباب الدولة وخاصتها... إلخ»[6].

وهذا -أيضًا- مسجد قُرْطُبَة قد وسَّعه حتى أصبح آية من آيات الفن المعماري، وكان محرابه عبارة عن قطعة رخام واحدة على شكل محارةٍ[7].
لكل هذا وغيره من مظاهر الحضارة أُطلِقَ على قُرْطُبَة في ذلك العصر «جوهرة العالم»[8].

الجانب الاقتصادي

كانت البلاد في عهد عبد الرحمن الناصر –رحمه الله- تعيش في رخاء منقطع النظير، فكثرت الأموال؛ حتى بلغت ميزانية الدولة ستة ملايين دينارٍ ذهبيٍّ، كان يقسمها ثلاثة أقسام كجدِّه عبد الرحمن الداخل -رحمه الله: ثلثًا للجيش، وثلثًا للبناء والمعمار والمرتبات وما إلى ذلك، والثلث الأخير للادِّخار لنوائب الزمن[9].

ونمت الزراعة نموًّا مزدهرًا؛ فتنوَّعت أشجار الفواكه والمزروعات من قصب السكر والأرز والزيتون والكتان، وأوجد مزارع خاصة لتربية دودة القز، كما نَظَّم أقنية الري وأساليب جرِّ المياه، وجعل تقويمًا للزراعة لكل موسم (ومنها انتقلت الزراعة إلى أوربا)[10].

كان من اهتماماته -أيضًا- استخراج الذهب والفضة والنحاس، وكذلك صناعة الجلود وصناعة السفن وآلات الحرث، وكذلك صناعة الأدوية، وقام عبد الرحمن الناصر بإنشاء أسواق كثيرة متخصصة لعرض وتداول مثل هذه البضائع، فكان هناك -على سبيل المثال- سوق للنحاسين، وأخرى للحوم، بل كان هناك -أيضًا- سوق للزهور[11].

الجانب الأمني

وكانت خُطَّة الشرطة من أهم المناصب الإدارية المتعلقة بضبط النظام والأمن، وكانت قبل عهد الناصر تنقسم إلى مرتبتين، الشرطة العليا، والشرطة الصغرى، ولكنها منذ سنة (317هـ) في عهد الناصر لدين الله قُسِّمت بحسب أهميتها إلى ثلاث مراتب: الشرطة العليا، والشرطة الوسطى، والشرطة الصغرى، كما قَسَّم خطة المظالم (أي المحاكم) إلى خطتين عام (325هـ)، وكانت قبل عهد الناصر خطة مفردة تتضمن العرض والمظالم، وجعل العرض خطة مستقلَّة بذاتها، وكذلك المظالم أضحت خطة مستقلة[12].

الجانب العلمي

ازدهر في عهد عبد الرحمن الناصر –رحمه الله- العلم والتعليم بصورة ملحوظة، وقد اهتمَّ كثيرًا بمكتبة قُرْطُبَة؛ تلك التي كانت قد تأسَّست قبل ذلك الوقت، فزاد كثيرًا في حجمها حتى بلغ عدد الكتب فيها أربعمائة ألف كتاب، وهو زمن لم تظهر فيه الطباعة بعدُ، وإنما كانت عن طريق النسخ اليدوي، الذي كان وظيفة النسَّاخين، فإذا أراد واحد من الناس أن يمتلك كتابًا ما عليه إلا أن يذهب إلى نَسَّاخ؛ فيذهب النساخ بدوره إلى مكتبة قُرْطُبَة فينسخ له ما يُريد[13].

وبأثر من هذا الجوِّ العلمي الزاهر، أوردت المصادر التاريخية وكتب التراجم والطبقات عددًا كبيرًا من الأسماء التي نبغت في هذه الفترة؛ فمنهم:
حسان بن عبد الله بن حسان (278-334هـ=891-946م):

من أهْل إسْتِجَة، وقد وُصف بأنه كان نَبيلاً في الفقه، وحافِظًا للرأي، ومُعْتنيًا بالحديث والآثار، ومتصرِّفًا في علم اللغة والإعراب، والعَروض ومَعَاني الشِّعر، مع بصره بالفرض وعِلم العَدد، ولمكانته العلمية قيل عنه: لم يَكُن في إسْتِجَة قبْله ولا بعده مِثله[14].

محمد بن عبد الله الليثي (ت339هـ= 951م):

من أهل قُرْطُبَة، وكان يشغل منصب «قاضي الجماعة» في قُرْطُبَة، تتلمذ على شيوخ بالأندلس، ثم رحل إلى مكة، ثم إلى مصر، ثم إلى تونس، وكان حافظًا للرأي، مُعْتَنِيًا بالآثار، جامعًا للسنن، متصرفًا في علم الإعراب، ومعاني الشعر، وكان شَاعِرًا مطبوعًا، وقد ولاه عبد الرحمن الناصر -رحمه الله- قضاء إِلْبِيرة وبَجَّانة، ثم قضاء الجماعة بقُرْطُبَة في شهر ذي الحجة سنة (326هـ)، وكان كثيرًا ما يخرج إلى الثُّغور، ويتصرَّف في إصلاح مَا ضعف فيها، فاعتلَّ في آخر خرجاته إلى هُناك، ومات في حصن مجاور لطُلَيْطِلَة فدُفن فيها[15].

السياسة الخارجية

ذاع صيت عبد الرحمن الناصر -رحمه الله- في الدنيا كلها، ورضيت منه ممالك الشمال بأن تعطيه العهد والجزية، وقد جاءت السفارات من كل أوربا تطلب ودَّه، فجاءت من ألمانيا وإيطاليا وفرنسا وإنجلترا، بل جاءت من أقصى شرق أوربا [16] من بيزنطة، وهي بعيدة جدًّا عن عبد الرحمن الناصر لكنها جاءت تطلب ودَّه وتُهدي إليه الهدايا، وأشهرها كان جوهرة ثمينة وكبيرة، كان يضعها عبد الرحمن الناصر في وسط قصره، الذي يقع في مدينة الزهراء، «وكانت من تحف قصر اليونانيين بعث بها صاحب القسطنطينية إلى الناصر مع تحف كثيرة سنية»[17].

وهكذا كان عزُّ الإسلام ومجده متمثلاً في عهد عبد الرحمن الناصر -رحمه الله، حتى أصبح -بلا منازع- أعظم ملوك أوربا في القرون الوسطى، وهذا ما جعل إسبانيا سنة (1963م) تحتفل -وهي على نصرانيتها- بمرور ألف سنة ميلادية على وفاة عبد الرحمن الناصر؛ لأنه كان أعظم ملوك إسبانيا على مرِّ العصور، فلم يستطيعوا أن يُخفوا إعجابهم بهذا الرجل الذي رفعهم في العالمين، الذي كانت الأندلس في عهده - وبلا جدال - أقوى دولة في العالم.

عبد الرحمن الناصر.. الإنسان

مَنْ يقرأ أو يسمع مثل ما سبق يجول في خاطره أن مثل هذا الرجل لم يكن يعرف إلاَّ طريقًا واحدًا، هو طريق العظمة والجدية التامَّة، طريق العزَّة وعدم الخنوع، وهذا وإن كان صحيحًا إلاَّ أن مَنْ ينظر إلى شخص عبد الرحمن الناصر -الذي ظلَّ يحكم البلاد من سنة (300هـ= 913م) إلى سنة (350هـ= 961م) نصف قرن كامل- لَيَرَى العَجَبَ العُجاب؛ فقد كان –رحمه الله- مع كل هذا السلطان وهذا الصولجان دائمَ الذِّكْر لربه سريع الرجوع إليه.

حدث ذات مرَّة قحط شديد في الأندلس، فأرسل الناصر رسولاً من عنده يدعو القاضي منذر بن سعيد –رحمه الله- بإمامة الناس في صلاة الاستسقاء، فقال منذر للرسول: ليت شعري ما الذي يصنعه الخليفة سيدنا؟ فقال له: ما رأينا قط أخشع منه في يومنا هذا؛ إنه منتبذ حائر منفرد بنفسه، لابس أخس الثياب، مفترش التراب، وقد رمد به على رأسه وعلى لحيته، وبكى واعترف بذنوبه، وهو يقول: هذه ناصيتي بيدك، أتراك تُعَذِّب بي الرعية وأنت أحكم الحاكمين؟! لن يفوتك شيء مني. قال الحاكي: فتهلَّل وجه القاضي منذر عندما سمع قوله، وقال: يا غلام؛ احمل المطر معك؛ فقد أذن الله تعالى بالسقيا، إذا خشع جبار الأرض، فقد رحم جبار السماء. وكان كما قال، فلم ينصرف الناس إلاَّ عن السقيا»[18].

وكان يقول الشعر -أيضًا- ومن شعره في أمر بنائه مدينة الزهراء: [الكامل]
[/b]
هِمَمُ المُلُوكِ إِذَا أَرَادُوا ذِكْرَهَا

مِنْ بَعْدِهِمْ فَبِأَلْسُنِ الْبُنْيَانِ
إِنَّ الْبِنَاءَ إِذَا تَعَاظَمَ شَأْنُهُ

أَضْحَى يَدُلُّ عَلَى عَظِيمِ الشَّانِ[19]
[b]
قالوا عن عبد الرحمن الناصر..

قال عنه الذهبي: كان شجاعًا شهمًا محمود السيرة، لم يزل يستأصل المتغلِّبين حتى تم أمره بالأندلس، واجتمع في دولته من العلماء والفضلاء ما لم يجتمع في دولة غيره، وله غزوات عظيمة ووقائع مشهورة، قال ابن عبد ربه: قد نَظَمتُ أُرجوزة ذكرتُ فيها غزواته. قال: وافتتح سبعين حصنًا من أعظم الحصون، ومدحه الشعراء[20].

وقال عنه الصفدي: ولم يكن بعد عبد الرحمن الداخل أجزل منه - أي الناصر - في الحروب، وصحة الرأي، والإقدام على المخاطرة والهول، حتى نال البُغيَة... فرتب الجيوش ترتيبًا لم يُعهَدْ مثلُه قبله، وأكرم أهل العلم، واجتهد في تخيُّر القضاة، وكان مُبَخَّلاً لا يُعطي ولا يُنفق إلاَّ فيما رآه سدادًا[21].

وها هو ذا يُتَوَفَّي –رحمه الله- في رمضان سنة (350هـ= 961م) عن اثنين وسبعين عامًا، وقد وجدوا في خزانته ورقة كان قد كتبها بخط يده، عدَّ فيها الأيام التي صَفَتْ له دون كدر؛ فقال: «في يوم كذا من شهر كذا في سنة كذا صفا لي ذلك اليوم». فعدُّوها فوجدوها أربعة عشر يومًا فقط[22].
[/b]
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
همسة قلم
اديبة


انثى
تاريخ التسجيل : 17/11/2013
عدد المشاركات : 13947
نقاط التقييم : 14510
بلد الاقامة : لبنان
علم بلدك : Lebanon لبنان

زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي )   زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Emptyالأحد ديسمبر 08, 2013 7:56 pm

خلافة الحكم المستنصر (302-366هـ= 914-976م)

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

استخلف عبد الرحمن الناصر من بعده ابنَه الحَكَمَ، الذي تولَّى من سنة (350هـ= 961م) إلى سنة (366هـ= 976م)، وتلقب بالمستنصر بالله، وكان يوم تولَّى في نحو السابعة والأربعين من عمره[1]، وكان أبوه يُقَرِّبُه ويعتمد عليه في كثير من الأمور؛ فكان ذا خبرة بشئون الحُكم والسياسة، وكان عبد الرحمن الناصر قد استطاع توطيد أركان الدولة، والقضاء على الفتن، وهو ما يَسَّر للحَكَم المستنصر فيما بعدُ أن يَصِلَ بالأندلس في عهده إلى أعلى درجات الرقي الحضاري، وأن تحدُث في عهده نهضة علمية وحضارية غير مسبوقة.

المكتبة الأموية في قرطبة

يقول عنه ابن الخطيب: «وكان -رحمه الله- عالمًا فقيهًا بالمذاهب، إمامًا في معرفة الأنساب، حافظًا للتاريخ، جمَّاعًا للكتب، مميِّزًا للرجال من كل عالم وجيل، وفي كل مِصرٍ وأوان، تجرَّد لذلك وتهمم به؛ فكان فيه حجة وقدوة وأصلاً يُوقف عنده»[2]. ويقول عما وصلت إليه الأندلس في عهده من الرقي والتحضر: «وإليه انتهت الأبهة والجلالة، والعلم والأصالة، والآثار الباقية، والحسنات الراقية»[3].

أنشأ الحكم بن عبد الرحمن المكتبة الأموية، تلك التي تُعَدُّ أعظم مكتباتِ العصور الوسطى على الإطلاق، وكانت تُنافس مكتبة قُرْطُبَة ومكتبة بغداد، وقد دفع آلاف الدنانير لجلب أعظم الكتب إليها من كل مكان في العالم، وكان له عمَّال وظيفتهم الوحيدة هي جمع الكتب من مشارق الأرض ومغاربها من بلاد المسلمين ومن غير بلاد المسلمين، فإذا جاءوا بكتاب في الفلك أو الطب أو الهندسة أو غيرها من أي بلد غير إسلامي تُرجِمَ على الفور وضُمَّ إلى المكتبة الأموية، وقد وسَّع الحَكم بن عبد الرحمن الناصر في المكتبة كثيرًا، وجعل لها أَرْوِقَةً عظيمةً حتى تستوعب كثرة الحضور من المسلمين.

وكان الحكم المستنصر –رحمه الله- يشتري الكتب مهما بالغ الناس في أسعارها، وقد أحضر في مكتبته هذه النسخةَ الأولى من كتاب الأغاني للأصفهاني[4] (وهو كتاب في الأدب) وأصفهان هذه الآن من مدن إيران، فأين إيران من إسبانيا الآن؛ فالرجل لم تكن تقف أمامه التخوم ولا الحدود!

وكَثُرَ النَّسخُ في عصره، حتى قال ابن خلدون: «وجمع بداره الحذاق في صناعة النسخ، والمهرة في الضبط، والإجادة في التجليد، فأوعى من ذلك كله، واجتمعت بالأندلس خزائن من الكتب لم تكن لأحد من قبله ولا من بعده، إلاَّ ما يُذكر عن الناصر العباسي ابن المستضيء»[5].

ومن مآثره أنه رَتَّب معلمين ومربين يُعَلِّمون أولاد الفقراء والضعفاء، وأنفق على أجورهم من بيت المال، وبلغت دور التعليم هذه سبعًا وعشرين؛ ثلاثة منها حول جامع قُرْطُبَة، وباقيها في ضواحي المدينة[6].

كما أنشأ –رحمه الله- جامعة قُرْطُبَة، التي كان مقرها في المسجد الجامع الكبير، وتدرس في حلقاتها مختلف العلوم، وكان يُدَرِّس الحديث أبو بكر بن معاوية القرشي، ويملي أبو علي القالي ضيف الأندلس دروسه عن العرب قبل الإسلام، وعن لغتهم وشعرهم وأمثالهم، وكان ابن القوطية يُدَرِّس النحو، وكان يُدَرِّس باقي العلوم أساتذة من أعلام العصر، وكان الطلبة يُعَدُّون بالآلاف[7].

علماء الأندلس في عصر الحكم المستنصر

أبو بكر الزُّبيدي (316-379هـ= 928-989م):

نزيل قُرْطُبَة، ونسبته إلى زُبيد، وهي قبيلة كبيرة باليمن، كان واحد عصره في علم النحو وحفظ اللغة، وكان أخبرَ أهل زمانه بالإعراب والمعاني والنوادر إلى علم السير والأخبار، ولم يكن بالأندلس في فنه مثله في زمانه، وله كتب تدلُّ على وفور علمه؛ من أشهرها: «مختصر كتاب العين»، وكتاب «طبقات النحويين والغويين بالمشرق والأندلس» من زمن أبي الأسود الدؤلي إلى زمن شيخه أبي عبد الله النحوي الرَّبَاحي، وكتاب «الأبنية في النحو» ليس لأحد مثله.

وقد اختاره الحَكَم لتأديب ولده وولي عهده هشام، فكان الذي علمه الحساب والعربية، وتولَّى قضاء إِشْبِيلِيَة وخُطة الشرطة، وكان كثير الشعر؛ فمن ذلك قوله في أبي مسلم بن فهر: [الطويل]
أَبَا مُسْلِمٍ إِنَّ الْفَتَى بِجَنَانِهِ

وَمِقْوَلِهِ لا بِالْمَرَاكِبِ وَاللبْسِ
وَلَيْسَ ثِيَابُ الْمَرْءِ تُغْنِي قُلامَةً

إِذَا كَانَ مَقْصُورًا عَلَى قِصَرِ النَّفْسِ
وَلَيْسَ يُفِيدُ الْعِلْمَ وَالْحِلْمَ وَالْحِجَا

أَبَا مُسْلِمٍ طُولُ الْقُعُودِ عَلَى الْكُرْسِي[8]
ابن القوطية

وهو أبو بكر محمد بن عمر بن عبد العزيز بن إبراهيم بن عيسى بن مزاحم، وقد أوردنا اسمه الكامل لأن له حكاية طريفة، فجده الأخير عيسى بن مزاحم هو الذي تزوج من سارة القوطية حفيدة يُليان الذي مهد للمسلمين فتح الأندلس وساعد فيه.

لما مات يُليان ترك ولدين هما إيفا وسيزبوت، ولم يلبث أن مات إيفا وقد أنجب ولدين وسارة، لكن العم سيزبوت اغتصب نصيب أبيهم، فبادرت سارة بالسفر مع أخويها إلى الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك في دمشق، فأنصفها وقضى لها برد ميراث أبيها، وفي دمشق تزوجت سارة من عيسى بن مزاحم، وأنجبت منه إبراهيم وإسحاق، ثم كان من نسل إبراهيم صاحبنا المؤرخ أبو بكر الذي عُرِفَ -لهذا- بلقبه «ابن القوطية»[9].

كان من أعلم أهل زمانه باللغة العربية، يروي الحديث والفقه والأخبار والنوادر، وكان من أكثر الناس رواية للأشعار، وإدراكًا للآثار، وكان مضطلعًا بأخبار الأندلس، عارفًا بسير أمرائها وأحوال فقهائها وشعرائها، يُملي ذلك عن ظهر قلب، وكانت كتب اللغة أكثر ما تُقرأ عليه وتُؤخذ عنه، وطال عمره فسمع الناس منه طبقة بعد طبقة، وروى عنه الشيوخ والكهول؛ وكان قد لقي مشايخ عصره بالأندلس وأخذ عنهم، وأكثر من النقل من فوائدهم، وصنف الكتب المفيدة في اللغة؛ منها: كتاب «تصاريف الأفعال»، وهو الذي فتح هذا الباب، وكتاب «المقصور والممدود»، جمع فيه ما لا يُحَدُّ ولا يُوصف، ولقد أعجز به مَنْ يأتي بعده، وفاق مَنْ تَقَدَّمه، وكان الأديب الكبير العلامة اللغوي أبو علي القالي يُبالغ في تعظيمه، حتى قال له الحكم المستنصر: مَن أنبل مَنْ رأيته ببلدنا هذا في اللغة؟ فقال القالي: محمد ابن القوطية.

وكان مع هذه الفضائل من العُبَّاد النسَّاك، جيد الشعر، صحيح الألفاظ، واضح المعاني، حسن المطالع والمقاطع، حكى الأديب الشاعر يحيى بن هذيل التميمي أنه توجَّه يومًا إلى ضيعة له بسفح جبل قُرْطُبَة، فصادف أبا بكر ابن القوطية في الطريق، قال: فلمَّا رآني عرج عَلَيَّ واستبشر بلقائي، فقلتُ له على البديهة مداعبًا له: [البسيط]
مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ يَا مَنْ لا شَبِيهَ لَهُ

وَمَنْ هُوَ الشَّمْسُ وَالدُّنْيَا لَهُ فَلَكُ
قال: فتبسم وأجاب بسرعة:
مِنْ مَنْزِلٍ يُعْجِبُ النَّسَّاكَ خُلْوَتُهُ

وَفِيهِ سَتْرٌ عَلَى الْفُتَّاكِ إِنْ فَتَكُوا
[b]قال: فما تمالكتُ أَنْ قَبَّلتُ يده؛ إذ كان شيخي، ومجدتُه ودعوتُ له[10].[/b]
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
همسة قلم
اديبة


انثى
تاريخ التسجيل : 17/11/2013
عدد المشاركات : 13947
نقاط التقييم : 14510
بلد الاقامة : لبنان
علم بلدك : Lebanon لبنان

زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي )   زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Emptyالأحد ديسمبر 08, 2013 7:59 pm

علاقة عبد الرحمن الناصر بالشمال الإفريقي

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

مات عبد الرحمن الناصر لدين الله بعد خمسين سنة من الحُكم، تمكَّن فيها من توطيد حُكم بني أمية، وإقرار قواعد حُكمهم في الأندلس، بعدما كادت تغيب شمسهم فيها، وينهار بنيان الإسلام في الأندلس كلها؛ بعد أن عصفت الفتن بالبلاد، واستبدَّ كل زعيم بولايته، وتحالف مَن استطاع منهم مع نصارى الشمال المتربِّصين، فأنعم الله على هذه الأُمَّة في ذلك الوقت بعبد الرحمن الناصر، الذي استطاع بالجهاد والمثابرة والمجالدة إعادة البلاد إلى الوحدة، فعادت للأندلس قوتها التي تمكنت بها من التصدي لنصارى الشمال وإخضاعهم، كما تمكنت من إخضاع بلاد شمال أفريقيا لسلطان عبد الرحمن الناصر.

غير أن عبد الرحمن الناصر لم يسعَ للسيطرة على بلاد الشمال الإفريقي سيطرة تامَّة، ولم تكن تعني له بلاد الشمال الإفريقي أكثر من أنها البوابة الجنوبية للأندلس، ولم يُحَفِّزه إلى بسط سيطرته عليها إلاَّ قيام الدولة العبيدية الخبيثة في هذه البلاد، ومعرفته بأنها لا بُدَّ أن تسعى للسيطرة على بلاد الأندلس، والقضاء على بني أمية وعلى ملكهم فيها؛ ولذلك سارع إلى بلاد شمال أفريقيا لتكون «منطقة حاجزة» في المقام الأول، ثم يستغلها بعد ذلك في إضعاف الدولة العبيدية كلما عَنَّت الفرصة.

وكان حُكَّام الشمال الإفريقي في ذلك الوقت مثل معظم حكام المسلمين آنئذٍ؛ كلُّ ما يهمهم هو أن يبقَوْا حُكَّامًا، فإن استطاعوا بعد ذلك توسيع ملكهم فعلوا، كما كانت تغلب عليهم العصبية لعرقهم ولقومهم، فأراد عبد الرحمن الناصر استغلال صفاتهم هذه، فاكتفى منهم بالخروج على سلطان العبيديين، والدخول في طاعته، وإن كان يعلم جيدًا، أنهم لن يدخلوا في طاعته إلاَّ خوفًا من بطشه، واحتماءً به من بطش العبيديين بهم، وتوطيدًا لسلطانهم في بلادهم، كما كان يعلم أنهم متى استطاعوا الاستقلال بعيدًا عن الاثنين فعلوا؛ لذلك لم يكن سلطان عبد الرحمن الناصر مستقرًّا في هذه البلاد، وكان يعتمد في الأساس على هؤلاء الأمراء الذين دخلوا في طاعته رغبًا أو رهبًا.

سياسة الحكم المستنصر

كان الحكم المستنصر على علم بكل هذا، ولم يكن يجهل منه شيئًا؛ ولذلك سعى لأن يُبقي على هذه التحالفات قوية مع هؤلاء الحكام، وبخاصة أن قوة الدولة العبيدية كانت في زيادة مستمرَّة في ذلك الوقت.

وفي سنة (360هـ) استطاع حلفاء الحكم المستنصر في شمال إفريقيا الانتصار على زيري بن مناد الصنهاجي عامل المعز لدين الله العبيدي، واستطاعوا قتله وقطعوا رأسه ورءوس كبار رجاله، وذهبوا بها إلى الحكم المستنصر في قُرْطُبَة ففرح بذلك فرحًا عظيمًا، واحتفل بهم، وأجزل لهم العطاء[1].

فعزم العبيديون على الانتقام، وعلى أن يُعيدوا فرض سيطرتهم على هذه المناطق مجدَّدًا، وجرَّدوا لذلك جيشًا قويًّا سنة (361هـ)، كان على رأسه يوسف بن زيري بن مناد الصنهاجي الشهير ببلقين، وهو ابن القائد الذي قتله أتباع الحكم المستنصر، فاجتمع أتباع الحكم المستنصر، وقامت حرب زَبُون[2] بين الفريقين، دارت فيها الدائرة على أتباع المستنصر، وكانت زناتة من أتباع المستنصر في شمال إفريقيا، فلما أيقن محمد بن الخير أمير قبيلة زناتة بالهزيمة، اتكأ على سيفه فذبح نفسه؛ أنفة من أن يقع أسيرًا في يد عدوه، فكانت هزيمة شديدة لأتباع الحكم المستنصر، وانتصارًا ساحقًا لبلقين، الذي لم يتوانَ بعد هذا عن قتل أبناء زناتة وتخريب بيوتهم، ومطاردتهم، وخضعت لبلقين معظم المناطق التابعة للحكم المستنصر في شمال إفريقيا، وقد حاول دخول سَبْتَة، ولكنه لم يستطع لشدَّة تحصينها ومناعتها[3].

وهذا الموقف من محمد بن الخير أوضح دليل على ما كان يُسيطر على هؤلاء القوم في ذلك الوقت من عصبية جاهلية لأقوامهم، وحُبٍّ للمناصب والسلطان، ويُؤَكِّد ذلك -أيضًا- هذا الانتقام الأعمى الذي قاده بلقين ضد قبيلة زناتة.

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

وكان حسن بن قنون الحسني أمير الأدارسة ممن استسلم لبلقين، وتحوَّل عن طاعة الحكم المستنصر إلى طاعة العبيديين، وأصبح يدعو لهم على منابر طَنْجَة بدلاً من الحَكم، فلمَّا علم الحَكم بما حدث واستشعر اقتراب الخطر من الأندلس إلى درجة أن طَنْجَة قد دخلت في طاعة العبيديين، بادر الحَكم فأرسل جيشًا قويًّا إلى سَبْتَة؛ لتكون قاعدته التي يتجه منها للسيطرة على بلاد الشمال الإفريقي كاملة، وأوصى قائد الجيش بالجدِّ والاجتهاد في محاربة ابن قنون، وأمره إن نصره الله تعالى ألا يفعل مثل بلقين، بل يأخذ بالعفو والصفح، وإصلاح البلاد، واستصلاح الرعية، وأن يستعين في ذلك بمَنْ يدخل في طاعة بني أمية، ودارت المعارك بين جنود الأندلس، وجنود حسن بن قنون، وهُزم حسن بن قنون، وفرَّ هو ورجاله عن طَنْجَة تاركين خلفهم أموالهم وأمتعتهم، ودخلت طَنْجَة في طاعة الحكم المستنصر، وأعطاها قادة الحكم المستنصر الأمان، وأرسلوا بالبشرى إلى قُرْطُبَة، ثم طارد الجيشُ الأندلسي فلول ابن قنون فهزموه مرَّة أخرى، وألجئوه هو ومَنْ معه من رجاله إلى جبلٍ حصين، فتبعه الجنود، ودارت بينهما معارك أخرى انهزم على أثرها، وهرب تاركًا أمتعته خلفه، ثم توالت فتوحات الأندلسيين في شمال إفريقيا.

ولكن حسن بن قنون لم ييأس، فأعاد تنظيم قواته، وقابل الجيش الأندلسي بعد أشهر قليلة، ودارت بين الفريقين معركة شديد في فحص مهران في ربيع الأول سنة 362هـ، قُتل في هذه المعركة قائد الجيش الأندلسي محمد بن قاسم، وهُزم الجيش الأندلسي وقُتل منه حوالي خمسمائة فارس، وألف راجل، وعادت فلول الجيش الأندلسي إلى سَبْتَة، وأرسلت إلى الحكم المستنصر تطلب الغوث والمدد[4].

وعلم حسن بن قنون أن الحكم المستنصر لن يتوانى عن إمداد مَنْ بقي من الجيش الأندلسي، وتوجيهه إليه، وكان يعلم ما وصلت إليه الأندلس من القوة والرخاء في هذا الوقت، وأنه لن يستطيع أن يثبت أمام الحكم المستنصر، فأراد أن يستغلَّ هذا النصر الذي أحرزه بطلب الصلح وتقديم الطاعة وتبادل الرهائن، ولكن الحكم المستنصر لم ينخدع بهذا؛ وعلم أنه لا يُريد الصلح، وإنما يُريد استغلال هزيمة الأندلسيين، ليُرَتِّب قواته ويُعيد الكَرَّة من جديد بمجرَّد أن يشعر في نفسه بالقدرة على ذلك، وأن حسن بن قنون هذا لو كان يُريد الصلح، لصالح من البداية، ولما قاوم الأندلسيين كل هذه المقاومة برغم الهزائم الشديدة التي جرت عليه، فكان مما أرسله المستنصر إلى عبد الرحمن بن يوسف بن أرمطيل قائد ثغر أصيلا في المغرب، ردًّا على ما أبداه الحَسن من رغبة في الإنابة والصلح: «وكيف يذهب الآن هذا المذهب، وهو في طغيانه مستمرٌّ، وفي دينه مستبصر، ولكم في كل أيامه محاربٌ، هذا هو الضلال، والمحال عين المحال، وسبب الخبال، وقد رأى أمير المؤمنين تأمين جميع الناس لديه غيره، وغير مَنْ أصرَّ إصراره، وتمادى تماديه، إلى أن يحكم الله عليه، ويفتح فيه»[5].

وبالفعل دخل في الطاعة؛ بسبب هذه السياسة الحكيمة سبعون رجلاً ممن كانوا مع حسن بن قنون من قبيلة مصمودة، ودخلوا إلى قُرْطُبَة في أول جمادى الآخرة من العام نفسه (362هـ)؛ ليُعلنوا دخولهم في طاعة الحكم المستنصر.

أمَّا حسن بن قنون فقد جهَّز له الحكم المستنصر جيشًا قويًّا، وجعل على رأسه واحدًا من أفضل قوَّاده، وأكثرهم شجاعة وشهامة، وهو غالب بن عبد الرحمن، وأمدَّه بالمال والجند وأرسله في رمضان من العام نفسه إلى بر العدوة قائلاً له: «سِرْ يا غالب مَسِيرَ مَنْ لا إذن له في الرجوع إلاَّ حيًّا منصورًا أو ميتًا معذورًا»[6]. فلمَّا نما ذلك إلى علم حسن بن قنون، وكان في البصرة (إحدى مدن المغرب الآن) تركها، ولجأ بأهله وأمواله إلى قلعة حجر النسر المنيعة القريبة من سَبْتَة، ثم دَارَ قتالٌ شديد بينه وبين الجيش الأندلسي بقيادة غالب بن عبد الرحمن، واستمرَّت المعارك أيامًا، واستمال غالب رؤساء الأمازيغ (البربر) -المنضمين لحسن والمدافعين عنه- بالمال، فانشقُّوا عنه، وبقي حسن بن قنون على عناده، وتحصَّن بالقلعة فضرب غالب حوله الحصار، وضيَّق عليه، حتى أشرف على الهلاك هو وأهله، فأرسل يطلب الأمان، فأمَّنه غالب وتسلَّم منه الحصن، وعَمِل غالب على تطهير المغرب من الخارجين عن طاعة الحكم المستنصر، وأرسل إليه الخليفة بالأموال؛ ليستميل بها قبائل الأمازيغ (البربر)، ودخل مَنْ بقي من حكام الشمال الإفريقي في طاعة الخليفة المستنصر لدين الله، واستقرَّ الأمر في بلاد الشمال الإفريقي للحكم المستنصر.

وفي سنة (364هـ) عاد القائد غالب بن عبد الرحمن في موكب عظيم إلى الأندلس، ومعه حسن بن قنون وشيعته من بني إدريس الحسنيون، ودخلوا على الخليفة المستنصر فَوَفَّى لهم بعهدهم، وأجزل لهم الأعطيات والهدايا ليتألَّفهم، وكان قد أعدَّ لهم دُورًا في قُرْطُبَة، فأُنزِلوا فيها، وعَيَّن سبعمائة من حاشيتهم في ديوانه، مبالغة في الإحسان إليهم.

واستمرَّ الحسن وذووه في ذلك حوالي عامين، ولكن الحسن بن قنون هذا كان لجوجًا سيئ الخُلق، وكانت نفقاتهم الكثيرة قد ثقلت على الخلافة، فضاق به الخليفة فأمر بترحيلهم إلى المشرق، وبالفعل رحلوا إلى مصر، واستقبلهم العزيز بالله العبيدي، وأحسن إليهم، ووعدهم بالعون والنصرة حتى يعود إليهم ملكهم في المغرب[7].
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
همسة قلم
اديبة


انثى
تاريخ التسجيل : 17/11/2013
عدد المشاركات : 13947
نقاط التقييم : 14510
بلد الاقامة : لبنان
علم بلدك : Lebanon لبنان

زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي )   زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Emptyالأحد ديسمبر 08, 2013 7:59 pm

مملكة ليون

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

كان سانشو ملك ليون قد لجأ مع جدته طوطة ملكة نافار إلى عبد الرحمن الناصر ليُساعده على اعتلاء عرش ليون من جديد، بعدما عزله أشراف ليون عن الحكم، ووَلَّوا بدلاً منه ابن عمه أردونيو الرديء -كما ذكرنا من قبل- وقد أحسن الناصر استقبالهم، ووعدهم بالمساعدة، وأرسل طبيبًا يهوديًّا إلى سانشو ليُعالجه من بدانته المفرطة، وكذلك أمدَّ سانشو بالمال والرجال؛ ليُساعدوه على أن يعود لعرشه، في مقابل تسليم بعض الحصون على حدودهم مع الأراضي الإسلامية، وأن يهدموا حصونًا أخرى، وبالفعل عاد سانشو إلى الحُكم بمساعدة عبد الرحمن الناصر، وهرب أردونيو الرابع (الرديء) إلى برغش في قشتالة.

ثم توفي عبد الرحمن الناصر بعد ذلك بقليل، ونكث سانشو بوعوده التي قطعها لعبد الرحمن الناصر، فلم يهدم الحصون التي اتفقا على هدمها، كما لم يُسَلِّم المسلمين ما اتفق على تسليمه لهم من حصون أخرى، ولم يكن هذا ذكاء من سانشو؛ إذ إن أردونيو الرابع لم يزل على قيد الحياة، وسيحاول هو الآخر أن يعود إلى العرش كما حاول سانشو، فلم يكن من الصواب أن يُعادي سانشو المسلمين، بأن يتنكَّر لعهوده معهم على هذا النحو.

وبالفعل استغلَّ أردونيو هذا التطور الجديد في علاقة ليون مع المسلمين، وذهب إلى الحكم المستنصر يستنجد به، ويطلب التحالف معه؛ ليساعده على أن يعود إلى عرشه، فأحسن الحكم استقباله، ووعده بالنصرة والمساعدة، فلمَّا علم سانشو بما عزم عليه الخليفة الحكم المستنصر من مساعدة خصمه وعدوِّه، أرسل إلى الخليفة المستنصر وفدًا من أشراف ليون وأحبارها يعرض عليه أن يعترف بطاعته، وأن يقوم بتنفيذ ما تعهَّد به لعبد الرحمن الناصر من قبل، فيهدم الحصون التي كان يجب أن يهدمها ويُسَلِّم المسلمين الحصون الأخرى.

ولكن أردونيو ما لبث أن توفي، فعاد سانشو ونكث بعهوده التي كان قد قطعها على نفسه، فعزم المستنصر على تأديبه، وبدأ يستعدُّ لمواجهة ليون عسكريًّا، فخاف النصارى من أثر ذلك عليهم، وقرَّرُوا أن يتحدوا لمواجهة المسلمين، وكان الكونت فرنان كونثالث قد أعلن قبل ذلك بقليل استقلاله بقشتالة عن ليون، وكانت العداوة قائمة بينه وبين سانشو ملك ليون، ولكن خوفهم من المسلمين أرغمهم على أن يتَّحدوا معًا لمقاومة الضربة الإسلامية القادمة.

جهاد الحكم المستنصر ضد النصارى

تحالف سانشو مع فرنان كونثالث أمير قشتالة، ومع غرسية سانشيز ملك نافار، ومع كونت بَرْشُلُونَة، وتأهَّبوا جميعًا لصدِّ الهجوم الإسلامي الوشيك.

وخرج الحكم المستنصر على رأس صائفة عام (352هـ= 963م) معلنًا الجهاد، فاجتاحت الجيوش الإسلامية أراضي قشتالة ومَزَّقت جيوشها شَرَّ ممزَّق في موقعة شنت إشتيبن، وأرغمت فرنان كونثالث، وسانشو على طلب الصلح، ثم اجتاحت الجيوش الإسلامية غربي مملكة نافار؛ عقابًا لملكها على نكثه بعهوده مع المسلمين وإغارته على أراضيهم، ثم توالت غارات المسلمين على أراضي قشتالة ما بين سنتي 963م، و967م.

مؤامرات داخلية في الممالك النصرانية

وقد تسببت الصراعات الداخلية على الحُكم في مملكة ليون، والصراعات الخارجية مع المسلمين وغيرهم في ضعف سلطان ليون في الداخل والخارج، فكثرت ثورات الزعماء والأشراف على سانشو، وكان من أشدِّ هؤلاء الثوار من الأشراف الكونت جوندسالفو سانشيز حاكم جِلِّيقِيَّة، وكان قد استطاع أن يُوَطِّد استقلاله في المنطقة الواقعة بين نهري منيو ودويرة، وأن يبسط حكمه على ثلاث قواعد مهمة؛ هي: لاميجو وبازو وقُلُمْرِيَة، الواقعة فيما وراء دويرة شمالي البرتغال، فسار سانشو لقتاله، ولكنه حينما عبر نهر منيو بقواته وجد الزعيم الثائر قد أرسل إليه يعرض عليه التسليم والدخول في طاعته، ثم دعاه إلى لقائه، فقبل سانشو وذهب إليه، فغدر به حاكم جِلِّيقِيَّة بأن دعاه إلى مأدبة طعام، وقدَّم إليه فاكهة مسمومة، فأكل منها سانشو، وسرعان ما شعر بآثار السمِّ تسري في جسده، فحُمل في الحال إلى ليون، وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، ودُفن بها سنة (966م).

وتولَّى من بعد سانشو ابنه راميرو الثالث، وكان طفلاً في الخامسة من عمره، فتولَّت الوصاية عليه عمته الراهبة إلبيرة، ولكن ذلك لم يَرُقْ لمعظم أشراف ليون، فأبوا الاعتراف بسلطانه، ونشبت نتيجة لذلك عددٌ من الثورات المحلية، وأعلن كثير من الزعماء الأقوياء الانفصال عن العرش، وكان مَثَلُ فرنان كونثالث في الانفصال بقشتالة أقوى مشجِّع لهم على ذلك، وكانت أخطر الثورات هي ثورة جوندسالفو سانشيز قاتل سانشو؛ حيث استمرَّ على استقلاله بحكم جِلِّيقِيَّة، وحكم القواعد الثلاثة المهمة لاميجو وبازو وقُلُمْرِيَة، الواقعة فيما وراء نهر دويرة.

وفي خلال ذلك توفي الكونت فرنان كونثالث أمير قشتالة عام (970م)، وخلفه على قشتالة ابنه غرسية فرناندز، كما توفي غرسية سانشيز ملك نافار، وخلفه ابنه سانشو غرسية الثاني.

سفارة نصرانية إلى الحكم المستنصر

وقد تسبَّبت هذه الأحداث والاضطرابات الداخلية في الممالك النصرانية في أن تلتزم هذه الممالك الهدوء تجاه المسلمين حينًا من الزمن دون أن تحاول الاعتداء عليهم؛ بل اتجه الملوك والأمراء النصارى إلى تحسين علاقاتهم بالمسلمين؛ فتوالت زياراتهم وسفاراتهم على الحكم المستنصر يطلبون منه الصلح والمهادنة.

فوفد أمير جِلِّيقِيَّة، وأمير أشتوريش، ثم وفدت رُسل غرسية ملك نافار، وهم جماعة من القوامس (الكونتات) والأساقفة يسألون الصلح، فأجابهم الحكم إلى ما طلبوا، وأرسل أمير بَرْشُلُونَة كذلك بسفارة إلى الحكم في شعبان سنة 360هـ=يونيو 971م؛ لتجديد المودَّة والصداقة، وكان مع السفارة ثلاثون أسيرًا مسلمًا كانوا محتجزين في بَرْشُلُونَة، كما وفدت الراهبة إلبيرة الوصية على ملك ليون تطلب السلم، فاستقبلها الحكم استقبالاً حافلاً، وأجابها إلى ما تطلب من السلم، كما وفدت سفارات أخرى من غرسية فرناندز أمير قشتالة، وفرنان لينيز أمير شلمنقة.. وغيرهم.

وكانت هذه السفارات في معظمها لطلب السلم والمودَّة مع الحكم المستنصر، وأحيانًا كانت لتقديم الطاعة وطلب العون.

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

استقلال قشتالة

كان عبد الرحمن الناصر قد تدخَّل لإعادة سانشو إلى العرش -كما ذكرنا- فاستغلَّ فرنان كونثالث هذا الصراع على الحُكم داخل مملكة ليون، وأعلن استقلاله بقشتالة عن مملكة ليون، وسعيًا منه إلى توسيع أملاكه وتوطيد حكمه أخذ يُغِيرُ على أراضي المسلمين من وقت لآخر؛ حيث كان نزوله إلى ميدان مقاومة المسلمين ومحاولة إضعافهم سبيلاً -في ذلك الوقت- إلى تدعيم هيبته في نفوس النصارى، واجتذاب عطفهم ومحبتهم، كما أنه بذلك يُوَطِّد سلطانه في مواجهة ملك ليون، الذي لم يَعُدْ إلى هذا المكان إلاَّ بدعمٍ من عبد الرحمن الناصر العدوِّ اللدود للنصارى الإسبان.

ومنذ ذلك الوقت بدأت قشتالة تحتلُّ مكانها في تاريخ الكفاح بين إسبانيا النصرانية وإسبانيا المسلمة، وتغدو -بالرغم من نشأتها المتواضعة- شيئًا فشيئًا أعظم الممالك النصرانية رقعة، وأوفرها قوة ومنعة، وأشدها مراسًا في محاربة المسلمين، وإنهاك قواهم.

مملكة نافار

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

كانت العلاقات قد اضطربت بين قشتالة وبين نافار في آخر حياة عبد الرحمن الناصر، ودارت رحى حرب شديدة بين الطرفين انتهت بهزيمة قشتالة، وأَسْرِ قائدها الكونت فرنان كونثالث، فلما توفي عبد الرحمن الناصر، وتولَّى من بعده ابنه الحكم المستنصر، طالب ملك نافار بتسليمه فرنان كونثالث، إلاَّ أن ملك نافار رفض أمر الحكم، بل زاد فأطلق فرنان كونثالث من أسره.

ثم اتحدَّ النصارى لمواجهة المسلمين عسكريًّا، بعدما رفض سانشو تنفيذ ما تعهَّد به للمسلمين، ودخلت الجيوش الإسلامية غرب نافار وعاثت فيها -كما تقدَّم- وظلَّ غرسية سانشيز في الحُكم حتى سنة (970م)، واستمرَّت أُمُّه الملكة طوطة محتفظة بإشرافها عليه، ومشاركتها الفعلية في الحكم حتى وفاتها سنة (690م) [1].
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
همسة قلم
اديبة


انثى
تاريخ التسجيل : 17/11/2013
عدد المشاركات : 13947
نقاط التقييم : 14510
بلد الاقامة : لبنان
علم بلدك : Lebanon لبنان

زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي )   زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Emptyالأحد ديسمبر 08, 2013 8:00 pm

توسعات الحكم المستنصر

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

ظنَّت الممالك الإسبانية النصرانية في الشمال أن وفاة عبد الرحمن الناصر ستؤثِّر كثيرًا على الأندلس، وأن الأندلس لن يكون بعد وفاة عبد الرحمن الناصر كما كان قبل وفاته، وربما ظنُّوا أن هذه الثورات التي استطاع عبد الرحمن الناصر إخمادها في أول عهده، لن تلبث أن تعود من جديد بعد موته؛ لذلك استهانوا بالحكم المستنصر، فهو في بداية عهده، وهو في أمسِّ الحاجة لاستقرار أحوال بلاده في هذه الفترة؛ حتى يقوى مُلكه، أو هكذا ظنُّوا، فسارع سانشو - كما ذكرنا - إلى نقض العهد الذي كان بينه وبين عبد الرحمن الناصر، ثم عاد ونقض عهده مع المستنصر، في حين أبت نافار تسليم فرنان كونثالث زعيم قشتالة، الذي هاجم الثغور الإسلامية أكثر من مرَّة، فرأى الحكم أنه لا بُدَّ من تأديب نصارى الشمال؛ على كل ما فعلوا ويفعلون، وبالفعل أعَدَّ جيشًا قويًّا وغزا به الممالك النصرانية في الشمال سنة (351هـ)، وفتح حصونًا كثيرة، وقتل وغنم وسبى، ثم رجع ظافرًا[1].

ثم عاد وجَهَّز جيشًا قويًّا في العام التالي سنة (352هـ) أرعب النصارى، وحملهم - رغم ما بينهم من عداوات- على الاتحاد لمواجهة القوات الإسلامية، ثم غزا الحكم بهذا الجيش الممالك الصليبية الثلاث في الشمال، ومزَّق به جيوشهم شَرَّ ممزق، واضطرهم إلى طلب الصلح والإذعان للمسلمين[2]، بل وتمسكوا -على عادة الأمم الضعيفة التي لا تملك الدفاع عن نفسها- بعلاقات السلام مع الحكم المستنصر، وظَلَّت وفودهم تأتي من عام إلى آخر تطلب تجديد الصلح مع الحكم المستنصر، أو تطلب منه التحالف معه في مقابل الدخول في طاعته[3].


غزو الفايكنج لسواحل الأندلس

استطاع الحكم المستنصر بهذه الهمة العالية أن يطأ أرض نصارى الشمال، وأن يُخضعهم، وأن يحملهم على اليأس من أن ينالوا منه شيئًا، وهذا ما اضطرهم إلى الحفاظ على حالة السلم بينهم وبين الحكم المستنصر، ولكن هذه الحالة من الرخاء والسلام لم تستمرّ طويلاً، بل لعلَّ هذا الرخاء قد أغرى أقوامًا آخرين بالأندلس؛ فهجمت على السواحل الغربية للأندلس سنة (355هـ) عصابات الفايكنج الذين هاجموا الأندلس من قبلُ في عهد عبد الرحمن الأوسط، واستطاع عبد الرحمن الأوسط رَدَّهم عن الأندلس مهزومين، وشرع في تحصين إِشْبِيلِيَة -كما ذكرنا من قبل- ولكن يبدو أن حالة الرخاء التي وصل إليها المجتمع في ذلك الوقت قد أنستهم هذه الهزائم القديمة، وأغرتهم بأن يُعيدوا الكَرَّة من جديد، فهاجموا السواحل الأندلسية الغربية بثمانية وعشرين مركبًا، وبدءوا يعيثون فيها فسادًا؛ فخرج إليهم المسلمون ودارت بينهم معارك شديدة، قُتل فيها عدد من الطرفين، وأَرسلت هذه المناطق رسائل إلى الحكم المستنصر في قُرْطُبَة، تُخبره بما حدث وتطلب منه العون والنجدة، فسارع بأمر الأسطول بالتحرُّك إلى نجدة المسلمين، وبالفعل دارت بين الأسطول وبينهم معارك شديدة هزمهم المسلمون فيها، وحطموا عددًا من مراكبهم، واستطاعوا رَدَّهم عن السواحل الأندلسية خائبين خاسرين، بعدما خَلَّصُوا مَنْ معهم من أسرى المسلمين، وظَلَّت سفنهم -التي بقيت لهم بعد هذه المعركة- تجوب المياه الغربية للأندلس فترة، لم يجرءوا فيها على مهاجمة الأندلس، ثم اختفوا بعد ذلك[4].

وبعد ذلك شُغل الحكم المستنصر بأمر الشمال الإفريقي، وإخضاعه لسلطانه، وبين هذا وذاك كان الحكم مهتمًّا بنشر العلم والتعليم، وإقامة هذا الصرح الحضاري العظيم في الأندلس، حتى توفي سنة (660هـ) بعدما أخذ البيعة لابنه هشام، وهو لا يزال طفلاً.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
همسة قلم
اديبة


انثى
تاريخ التسجيل : 17/11/2013
عدد المشاركات : 13947
نقاط التقييم : 14510
بلد الاقامة : لبنان
علم بلدك : Lebanon لبنان

زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي )   زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Emptyالأحد ديسمبر 08, 2013 8:01 pm

استخلاف هشام المؤيد

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

بالرغم من أن الحكم المستنصر كان من أفضل حكَّام الأندلس إلاَّ أنه في آخر عهده قد أخطأ خطأ جسيمًا؛ فقد أُصيب في آخر أيامه بالفالج (بالشلل)، فقام باستخلاف أكبر أولاده هشام بن الحكم (هشام المؤيد) وعمره آنذاك عشرة أعوام فقط[1]، استخلفه على بلاد الأندلس وفوقها بلاد النصارى في الشمال ومن تحتها الدولة العبيدية (الدولة الفاطمية) في الجنوب، وكل ممالك أوربا متربِّصة للكيد لهذه القوة العظيمة وهزيمتها.

وهي بلا شكٍّ زلَّة خطيرة من الحكم بن عبد الرحمن الناصر؛ إذ كان عليه أن ينتقي مَنْ يستخلفه لهذه المهمة الجسيمة، ويُوَلِّي رجلاً آخر من بني أمية؛ يستطيع أن يقوم بأعباء حُكم دولة قوية، كثيرة الأعداء متسعة الأطراف، ومترامية الأبعاد كدولة الأندلس.
وقد توفي الحكم المستنصر سنة (366هـ=976م)، مستخلفًا على الحُكم من بعده ابنه الطفل الصغير هشام بن الحكم (هشام المؤيد)، وكان في القصر حزبان قويان؛ هما: الفتيان الصقالبة من جهة، ومن الجهة الأخرى الحاجب جعفر بن عثمان المصحفي، ومعه قائد الشرطة القوي والناظر على شئون الخليفة ومتولي أمره محمد بن أبي عامر، ومن وراء هذا الحزب أم الخليفة صبح البشكنسية، التي كانت أقوى شخصية في هذا الحزب في تلك اللحظة، وهي بشكنسية الأصل (نافارية)، وكانت أحب نساء الحكم إليه وأحظاهن عنده.

مؤامرة الفتيان الصقالبة

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

كان من عادة أمراء بني أمية الاستكثار من الفتيان الصقالبة، والاعتماد عليهم في أعمال القصر وأمورهم الخاصة، وقد سار عبد الرحمن الناصر وابنه الحكم المستنصر على هذا النهج، فزاد عدد الفتيان الصقالبة في عهدهم، وبلغ عدد العاملين منهم في القصر فقط في نهاية عهد الحكم المستنصر أكثر من ألف فتى، فاتَّسع نفوذهم، وأصبحوا قوة لا يُستهان بها لكثرتهم، ولقُربهم من الخليفة، ولاعتماد الخليفة عليهم في أعمال مهمة كحراسته شخصيًّا، وما إلى ذلك من أعمال تمرَّسُوا فيها بمرور الوقت دون غيرهم، حتى ظنُّوا أن المُلْكَ بأيديهم، وأن لا غالب لهم.

وكان كبير الفتيان الصقالبة الفتى فائق، ويليه في المرتبة والمكانة الفتى جؤذر، فلما مات الحكم المستنصر كتم هذان الفتيان خبر موته، وضبطوا أمور القصر وسَيَّرُوها كأنْ لم يحدث شيء، وعقدا العزم على صرف أمر الخلافة عن هشام المؤيد لصغر سِنِّه، ولمعرفتهم أن الحاكم الفعلي سيكون حزب المصحفي وابن أبي عامر وصبح، فعزموا على نَقْلِ الخلافة إلى أخي الحكم المستنصر المغيرة بن عبد الرحمن الناصر، فيكون لهما نتيجةً لذلك فضل على المغيرة بن عبد الرحمن الناصر، ويَتَّسع نفوذهما ونفوذ أتباعهما.

جلس الفتيان فائق وجؤذر يضعان الخطة لتنفيذ فكرتهما، فأشار جؤذر بقتل الحاجب المصحفي، فبذلك يتمُّ لهم الأمر، فلم يرض فائق بهذا، وأشار بأن يأتوا بالحاجب فيُخَيِّروه بين الموافقة أو القتل، فأرسلا إلى جعفر الحاجب، ونعوا إليه الحكم المستنصر، وأخبراه بما ينويان به من صرف الأمر إلى المغيرة أخي الحكم لصغر سن هشام، فأدرك الحاجب التهديد الكامن وراء الكلام، فأظهر الموافقة وقال: هذا والله! أَسَدُّ رأي وأوفق عمل؛ والأمر أمركما، وأنا وغيري فيه تبع لكما، فاعزما على ما أردتما، واستعينا بمشورة المشيخة؛ فهي أنفى للخلاف، وأنا أسير إلى الباب (أي القصر)، فأضبطه بنفسي، وأنفذا أمركما إليَّ بما شئتما.

وبادر بالفعل إلى ضبط أبواب القصر لكي لا ينتشر الخبر، ثم سارع إلى طلب كبار رجال الدولة من العرب والبربر، وكان منهم محمد بن أبي عامر، كما أمر بإحضار أتباعه وشيعته، ونعى إليهم الخليفة، وأخبرهم بخطة الفتيان الصقالبة في تحويل أمر الخلافة إلى المغيرة بن عبد الرحمن الناصر بدلاً من هشام بن الحكم، ثم عَرَّفهم أضرار ذلك فقال: «إن حَبَسْنَا الدولة على هشام، أَمِنَّا على أنفسنا، وصارت الدنيا في أيدينا، وإن انتقلت إلى المغيرة اسْتَبْدَل بنا، وطلب شفاء أحقاده». فأشاروا عليه بقتل المغيرة بن عبد الرحمن، ولكن لم يجرؤ أحد منهم على التقدُّم لتنفيذ هذا الأمر.
فلما رأى ابن أبي عامر ذلك، سارع هو بتنفيذ هذه المهمة؛ حرصًا منه عليهم، واتباعًا لجعفر بن عثمان، فأُعجبوا به، وزاد تقديرهم له، وقال له جعفر: أنت أحقُّ بتولِّي كِبْرَه لخاصَّتك بالخليفة هشام ومحلك من الدولة. ثم أرسل معه فرقة من الجنود فذهبوا من فورهم إلى دار المغيرة بن عبد الرحمن الناصر، فأحاطوا بالدار من جميع جوانبها، ودخل عليه ببعض هؤلاء الجنود، ولم يكن قد علم بخبر وفاة أخيه، فنعاه ابن أبي عامر إليه، وأخبره بأن الوزراء قد خشوا أن يخرج المغيرة على بيعة هشام، فأرسلوه إليه ليمتحنه، وليتأكَّد من صدق ولائه لابن أخيه، وبقائه على بيعته، فذُعِر المغيرة ثم استرجع عليه، واستبشر بملك ابن أخيه، وقال: «أَعْلِمْهم أني سامع مطيع وافٍ ببيعتي؛ فتوثَّقُوا مني كيف شئتم». وأقبل يستلطف ابن أبي عامر، ويناشده الله في دمه، ويسأله المراجعة في أمره، حتى رقَّ له ابن أبي عامر، فأرسل إلى جعفر المصحفي يصف له أمر المغيرة، ويطمئنه بأنه سامع مطيع، وكان جعفر وأصحابه قد عزموا على التخَلُّص من المغيرة أيًّا كان موقفه؛ مبالغة في تأمين الخلافة، فلما رأى جعفر رغبة ابن أبي عامر في ترك المغيرة حيًّا، أرسل إليه بلومه على التأخير، ويقول له: غررتنا من نفسك؛ فانْفُذْ لشأنك أو فانصرف نرسل سواك.

فعلم ابن أبي عامر أن لا سبيل لنجاة المغيرة، واستفزَّت كلمات جعفرٍ ابنَ أبي عامر، فأمر بالمغيرة فقُتل خنقًا أمام حريمه، ثم عَلَّقُوا جثمانه على هيئة المشنوق، ليقولوا مِنْ بعدُ: إنه قتل نفسه لَمَّا أكرهوه على الركوب لابن أخيه لمبايعته. وكانت سنه يوم قُتل سبعًا وعشرين سنة[2].

هل كان المغيرة طرفًا في مؤامرة الفتيان الصقالبة؟

حتى باعتبار أن الحكم المستنصر أخطأ حين عهد بولاية العهد لابنه الصغير، ففي عُرْفِ ذلك الزمان أن الولد قد تمت له بيعة شرعية، وأن الخروج على هذه البيعة هو خروج على الوالي الشرعي، ولقد كان المغيرة فتى بني أمية ومن المؤهلين لتولي الخلافة، ووردت عبارة لابن بسام في الذخيرة تُفيد بأنه كان يتأهَّب للانقلاب على ابن أخيه، قال: «وكان فتى القوم كرمًا ورجلة، وممن أُشير نحوه بالأمر بأسباب باطنة، فأخذ له أهبته»[3].

كما بدا في كلمة المصحفي: «وإن انتقلت إلى المغيرة اسْتَبْدَل بنا، وطلب شفاء أحقاده»، أن له عداوة سابقة مع المصحفيين، وهم رجال دولة الحكم، فهذا دليل آخر على أن الرجل لم يكن بعيدًا عن صراعات القصر وأطرافه.

ونحن لا نتوقَّع أن يكون الفتيان الصقالبة من السذاجة بحيث إنهم يُدَبِّرون لصرف الأمر إلى المغيرة إلاَّ لو كانوا على سابق اتفاق معه، فليس من طبائع الأمور أنهم سيدبرون لهذا الأمر دون أن يتم تواصل مع الرجل الذي يُريدون تنصيبه خليفة؟
ولهذا، فنحن نميل إلى القول بأن المغيرة كان ينوي الانقلاب على ابن أخيه، إلاَّ أن المصحفي –وقد كان يملك أمر الدولة- كان أسرع إليه من خبر وفاة أخيه الحكم، فوصل إليه ابن أبي عامر ومجموعته وهو آمن.

لا شَكَّ أن مصلحة المصحفي كانت في تصفية المغيرة وإغلاق هذا الملف كله؛ فيضمنون انتهاء مؤامرة الصقالبة، وانتهاء الرجل القوي الذي قد ينازع بعدئذٍ في منصب الخلافة، ويقود الخروج على ابن أخيه، ولا شَكَّ أن المغيرة حين رأى ابن أبي عامر ومجموعته أيقن بالهلاك، فحاول بكل ما أطاق استنقاذ نفسه، ولا شَكَّ -أيضًا- أن المصحفي حين بلغه رجاء ابن أبي عامر ألا يقتل المغيرة لأنه أعلن الطاعة قدَّر في رأسه هذا المعنى، وأنه لو تُرِك المغيرة حيًّا فإنه سيكون أشد نقمة على المصحفي وجماعته بعد هذا الموقف؛ فلقد كانوا على وشك قتله، فرأي المصحفي أن يُغلق هذا الباب كله، وأرسل إلى ابن أبي عامر الذي صَدَع بالأمر وما كان له –في هذه اللحظة- أن يفعل إلاَّ هذا، ولو لم يرضَ به.

وتميل بعض التحليلات الأخرى إلى أن المغيرة لم يكن على علم بمؤامرة الصقالبة، ولا كان ينوي الخروج؛ إذ لم تبدُ من بادرة نحو هذا، وأن مقتله لم يكن إلاَّ نتيجة مؤامرات لم يكن هو طرفًا فيها، ولكن كانت مصلحة المصحفي في قتله ليصفو له الأمر.

المؤامرات بين الصقالبة وجعفر المصحفي

عاد ابن أبي عامر إلى جعفر يُبَشِّره بتصفية المغيرة، ففرح بذلك، وقرَّب ابن أبي عامر إليه، فلمَّا بلغ الأمر لفائق وجؤذر سُقِطَ في أيديهم، وأخذا يتلاومان، ثم أرسلا إلى جعفر يعتذران إليه، ويقولان له: إنَّ الجزع أذهلنا عمَّا أرشدك الله إليه، فجزاك الله عن ابن مولانا خيرًا، وعن دولتنا وعن المسلمين. وأظهرا له القبول والاستبشار، فأظهر الحاجب جعفر -أيضًا- لهما قبول عذرهما، وعدم التثريب عليهما، غير أن العداوة قد استعلنت بين الطرفين: الصقالبة من جهة، وحزب هشام من جهة أخرى، فبقي الحاجب جعفر على حذر شديد من الصقالبة كلهم، ونَشَرَ بينهم العيون والجواسيس، وظلَّ في انتظار الفرصة المناسبة لتمزيقهم وتشتيت جمعهم، وهو ما حدث بالفعل بعد ذلك.

بلغ المصحفي أن فائقًا وجؤذرًا يتآمران مع بعض أتباعهما من الصقالبة في داخل القصر وخارجه؛ لتنحية هشام عن الملك، فشدَّد الحاجب الرقابة على الصقالبة، وأمر بسدِّ الباب المخصَّص لهم في القصر، وأن يكون دخولهم وخروجهم من بعدُ من باب السدَّة مع باقي الناس، ثم تفاهم مع ابن أبي عامر على أن يُلحق بعضهم بحاشيته، فاستجاب له ابن أبي عامر، فانتقل خمسمائة منهم إلى حاشية ابن أبي عامر، فعمل ابن أبي عامر على استرضائهم، وقويت بهم شوكته من بعدُ.

فشعر مَنْ بقي من الصقالبة بأن أمرًا ما يُحَاك ضدَّهم، فسَعَوْا للضغط على الحاجب جعفر، فأعلن الفتى جؤذر رغبته في الاستعفاء من عمله، وكان يظنُّ أن له مكانة في القصر، وأنه لا يمكن الاستغناء عنه، إلاَّ أن استقالته قد قُبلت بالفعل في رسالة واضحة لمَنْ بقي منهم، أنهم لا يُمَثِّلون الأهمية الكبيرة التي يظنونها لأنفسهم، فزاد تذمُّرهم وسخطهم على الدولة، وكان أكثرهم جسارة في ذلك فتى اسمه دري، وكان جاهلاً متمردًا، فحرَّك الحاجب جعفرٌ المصحفي رجلَه القوي الذكي ابنَ أبي عامر للتخلص منه، فأوعز ابن أبي عامر لمن تحت قيادة الفتى دري بأن يشتكوا جوره وظلمه لهم؛ لكي يُخَلِّصهم منه، فسارعوا إلى ذلك.

ورفع الحاجب جعفر أمر ذلك إلى هشام المؤيد، فأمر بجمع دري والمتظلمين منه والتحقيق معهم، فاستدعاهم ابن أبي عامر إلى دار الوزارة للتحقيق معهم، فلما أقبل دري على دار الوزارة، أحسَّ بالشرِّ فَهَمَّ بالرجوع فاعترضه ابن أبي عامر وقبض عليه، فأساء دري إليه وتشاجر معه، وجذبه من لحيته، فقُبِض عليه ثم حُمِلَ إلى داره، وقُتل في تلك الليلة، ثم عمد إلى باقي الفتيان الصقالبة فأمرهم بمغادرة القصر إلى دورهم، وأن يلزموها ولا يخرجوا منها، فلما تمَّ له ذلك، اشتدَّ في مطاردتهم، وأخذ أموالهم؛ حتى لا يُفَكِّروا في العودة إلى التآمر على الدولة، ونفى فائقًا إلى الجزائر الشرقية (جزر البليار حاليًا) فبقي بها حتى مات، وبذلك استأصلوا شوكة الفتيان الصقالبة، وأَمِنُوا مكرهم[4].
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
همسة قلم
اديبة


انثى
تاريخ التسجيل : 17/11/2013
عدد المشاركات : 13947
نقاط التقييم : 14510
بلد الاقامة : لبنان
علم بلدك : Lebanon لبنان

زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي )   زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Emptyالأحد ديسمبر 08, 2013 8:01 pm

نشأة ابن أبي عامر

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

هو محمد بن عبد الله بن عامر بن أبي عامر بن الوليد بن يزيد بن عبد الملك المعافري، وكان جدُّه عبد الملك المعافري من العرب الفاتحين الذين دخلوا الأندلس مع طارق بن زياد -رحمه الله، فنزل بالجزيرة الخضراء في جنوب الأندلس، واستقرَّ بها، وكان والد المنصور (عبد الله بن عامر) من أهل الدين والعفاف والزهد في الدنيا والقعود عن السلطان، وقد مات في مدينة طَرَابُلُس الغرب وهو عائد من أداء فريضة الحج، وأمه هي بُرَيْهَة بنت يحيى من قبيلة بني تميم العربية المعروفة.

نشأ محمد بن أبي عامر في هذا البيت نشأة حسنة، وظهرت عليه النجابة منذ نعومة أظافره، وقد سار على خطى أهله وسَلَك سبيل القضاء؛ فتعلَّم الحديث والأدب، ثم سافر إلى قُرْطُبَة ليُكمل تعليمه.

ابن أبي عامر في قصر الخلافة

كان ابن أبي عامر ذا طموح كبير وهمة عالية وذكاء وقَّاد، وعمل كاتبًا للقاضي محمد بن إسحاق بن السليم، الذي رأى من نبوغه ما جعله يوصي به عند الحاجب جعفر بن عثمان المصحفي، وكان من تصاريف القدر أن وَلدت صبح البشكنسية –جارية الخليفة الحكم المستنصر- ولدها الأول عبد الرحمن فطلب الحكم المستنصر وكيلاً لولده عبد الرحمن، يقوم على ولده ويرعاه، فرشَّح الحاجب المصحفي هذا الفتى النابه محمدَ بن أبي عامر لذلك، وأثنى عليه عند الحكم المستنصر، فولاه الحكم المستنصر وكالة ابنه عبد الرحمن بالفعل سنة (356هـ).

وقد أُعجب الحكم المستنصر بأخلاق محمد بن أبي عامر، وذكائه ونباهته وحُسن تصرُّفه، كما بهره هذا النبوغ العلمي الذي يحوزه ذلك الشاب، ولقد كان الحكم –كما سبق- عالمًا وخبيرًا بالأنساب ومؤرخًا، فلا شَكَّ أن هذا كان من أهم أسباب تقريبه لابن أبي عامر وحبِّه إيَّاه.

توفي عبد الرحمن طفلاً صغيرًا، ثم لم يلبث أن ولدت صبح ولدها الثاني هشامًا، فتولَّى وكالته -أيضًا- ابن أبي عامر سنة (359هـ)، ولم يلبث أن تدرَّج في المناصب العليا، فعُيِّنَ أمينًا لدار السكة، وكُلِّفَ بالنظر على الخزانة العامة وخُطة المواريث، ثم أصبح قاضيًا لإِشْبِيلِيَة ولبلة، ثم عَيَّنه مديرًا للشرطة الوسطى، ثم ولاَّه الأمانات بالعدوة، فاستصلحها واستمال أهلها، ثم عينه الحكم قاضي القضاة في بلاد الشمال الإفريقي، وأمر عماله وقوَّاده هناك ألا يقطعوا أمرًا إلاَّ بمشورته، ثم عينه الحكم المستنصر ناظرًا على الحشم وهو في مرض موته.

ومن المدهش في أمر محمد بن أبي عامر أنه لم يتولَّ عملاً إلاَّ وأداره ببراعة وكفاءة فاقت براعة سالفيه، رغم أنه دونهم في السنِّ والخبرة، وأنه كانت تزيد عليه المناصب والتكاليف فيستطيع أن يجمع بينها مهما اختلفت وتكاثرت ويُبْدي –بعد كل هذا- مهارة فائقة في الإدارة والتصرف، رغم أن الدولة كانت في عصرها الذهبي؛ أي أن الأعمال كانت في الغاية من التفنن والدقة، وتتطلب خبرة وإتقانًا.
وكان مما ساعد محمد بن أبي عامر على أن يصل إلى هذه المراتب العالية بهذه السرعة –بجانب هذه المواهب النادرة- أنه استطاع استمالة «صبح البشكنسية» أمَّ هشام المؤيد، وجارية الحكم المستنصر، بحُسن خدمته لها ولابنها، وسعة بذله في الهدايا التي كان يُهديها دائمًا إليها، فأتاها بأشياء لم يُعهد مثلها؛ حتى لقد صاغ قصرًا من فضة وقت ولايته السكة، وصرف فيه مالاً جسيمًا، حتى جاء بديعًا، لم تَرَ العيون أعجب منه ولا أحسن، ثم حُمل إليها من دار ابن أبي عامر؛ ليُشاهده الناس جميعًا، في مشهد لم يُعهد ولم يُرَ مثله من قبلُ.

على أن الحكم المستنصر لم يكن غائبًا عن هذا كله، فيُحكى أن الحكم المستنصر ظنَّ أن محمد بن أبي عامر يُتلف مال السكة (وزارة المالية) المؤتَمن عليه، فأمره الحكم بأن يُحضر المال الذي عنده ليراه بنفسه، ويتأكَّد من كماله، ويُقال: إن ابن أبي عامر كان قد استهلك بعضًا من هذه الأموال؛ ولذلك ذهب إلى الوزير ابن حدير ليُسلفه المال الناقص -وكان صديقًا له- فأسلفه ابنُ حدير المال الناقص، فعرف الحكم أنه قد أساء به الظنَّ، وزاد إعجابُ الحكم بأمانة ابن أبي عامر وحُسن تدبيره، ورفع قدره عنده، وبمجرَّد أن تأكَّد الحكم من عدم نقصان المال، أعاد ابن أبي عامر إلى الوزير ابن حدير مالَه، وهو مع هذا كله يُحسن معاملة الحاجب (رئيس الوزراء) جعفر بن عثمان المصحفي ويُداريه[1]، ويطلب منه دائمًا النصح والمشورة[2].

بعد وفاة الحكم المستنصر، وبعد القضاء على مؤامرة الصقالبة، ثم على قوة الصقالبة ونفوذهم في القصر، صفا الحال لحزب هشام بن الحكم المؤيد بالله، وهذا الحزب -كما سبق وقلنا- متمثِّل في الحاجب المصحفي، وأم الخليفة الصغير صبح البشكنسية، وهي الشخصية القوية في القصر، التي كانت أحب نساء الحكم إليه وأحظاهن عنده. ثم ابن أبي عامر الشخصية القوية التي تتولَّى العديد من الأعمال، والتي يتكئ عليها جعفر المصحفي في كل عمل مهم، وهو كذلك متصل بصبح باعتباره كان وكيلاً لولدها هشام –الذي هو الخليفة الآن- ثم تولَّى النظر على شئون الخاصة.

بين محمد بن أبي عامر وصبح البشكنسية

تذكر المصادر التاريخية أن حبًّا عظيمًا نشأ بين صبح وبين محمد بن أبي عامر، وأن هذا الحب كان ذا سهم كبير –بجانب كفاءة ابن أبي عامر- في ترقيه في مناصب الدولة، ثم في الأمور التي ستأتي فيما بعد، والحقُّ أن أمرًا كهذا لا يمكن القطع به على سبيل اليقين، وإن لم يكن مستبعدًا، فصبح شابَّة جارية كانت عند الخليفة الذي كان في مرحلة الكبر، بينما ابن أبي عامر شاب يشتعل ذكاء وحسنًا، ومقدرة على تصريف الأمور، ثم هو يتقرَّب إليها بين الحين والحين بالهدايا الفاخرة.

إلاَّ أن كل هذا لا يدفعنا للتيقُّن من وجود هذا الحب، فضلاً عن أن ندخل فيما حرَّم الله -كما فعل البعض- فنتوقَّع ما وراء هذا مما يُجاوز الحلال إلى الحرام؛ ذلك أن كل ما حدث وما سيأتي يمكن أن يُفَسَّر في إطار المصلحة المشتركة؛ ابن أبي عامر لا عصبة له ولا عائلة يتكئ عليها، فلا بُدَّ له من وجود هشام في منصب الخليفة؛ ليبقى هو في مكانته من الدولة، وصبح جارية بشكنسية فلو لم يكن ولدها في منصب الخليفة لما كان لها شأن يُذْكَر، إلى جانب ما رُكِّب في الأُمِّ من غريزة حب الولد، التي تجعلها تجاهد ما استطاعت ليكون ولدها هو الخليفة سيد البلاد.

ففي هذه اللحظة من تاريخ الأندلس كان في المشهد ثلاث شخصيات قوية: المصحفي الذي يتكئ على عصبته «المصحفيين»، وابن أبي عامر يتكئ على صبح والخليفة ومواهبه الفائفة، وصبح التي تتكئ على ولدها الخليفة وعلى ولاء محمد بن أبي عامر. ثم نُضيف إلى هؤلاء شخصية قوية رابعة ألا وهي شخصية فارس الأندلس الكبير وصاحب التاريخ الجهادي الزاهر غالب الناصري.

وكان غالب الناصري لا يحب المصحفي، ولا يراه أهلاً لأن يكون شيخَ الموالي دونه؛ ذلك أن المصحفي ليس له سابقة جهاد ولا تاريخ، كما أنه معروف بالبخل، ولم يَتَرَفَّع في مناصب الدولة إلاَّ لأنه كان -قديمًا- مُعَلِّمًا ومُرَبِّيًا للخليفة الحكم لَمَّا كان ولي العهد، فلمَّا تولى الحكم الخلافة عَهِدَ إليه بمنصب الحجابة.

هجمات النصارى على الأندلس

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

ثم وقع بالأندلس حادث خطير؛ إذ ما أن علم نصارى الشمال بوفاة الحكم المستنصر، وجدوا الفرصة سانحة لنقض كلَّ ما كان بينهم وبينه من عهود ومواثيق، وشرعوا يُهاجمون الثغور الإسلامية هجمات عنيفة، بغرض الثأر من المسلمين وإضعافهم؛ فلا يجدون فرصة لاستجماع قواهم من جديد، ولا يجد حاكمهم الجديد -أيضًا- الفرصة لتوطيد مُلكه؛ فيستطيع من بعدُ أن يُوَجِّه لهم الضربات العنيفة التي اعتادوها في عهد الحكام الأقوياء؛ ومن هنا فقد اشتدَّت هجمات نصارى الشمال على الثغور الإسلامية، بل وتخطّوها حتى كادت حملاتهم تصل إلى قُرْطُبَة عاصمة الخلافة الإسلامية في الأندلس.

وكأنَّ ضعف الخليفة الصغير قد انسحب على رجال الدولة جميعًا، فلم يُقدم أحد على كفاح النصارى وردِّهم، ولا يجدون أحدًا يتقدَّم لهم؛ فغالب الناصري في مدينة سالم -وهي إحدى الثغور- يقول بأنه لا يستطيع ترك المدينة؛ وإلاَّ هوجمت. وبعض التحليلات تقول بأنه لم يشأ الخروج لملاقاة العدوِّ ليُحْرِج المصحفي، ويُثَبِّت قدره ومكانته في الدولة.

والمصحفي متردد خائر الرأي، ليس له عزيمة، ولا يدري ماذا يفعل، وهو يجبن عن الخروج لملاقاة العدوِّ، بل بلغ به الأمر -بالرغم من قوة الجيش الذي تركه الحكم المستنصر، ووفرة المال والسلاح والعتاد- أن أمر أهل قلعة رباح بقطع سدِّ نهرهم؛ ظنًّا منه أن هذا قد يُنجيهم من ضربات النصارى المتلاحقة.

وهكذا بدت هذه الدولة القوية وكأنما ستعاني وتسقط جراء خلافات رجالها، وصغر سن خليفتها، وضعف وتردُّد حاجبها ومتولِّي إدارتها.

وهنا.. نهض للأمر محمد بن أبي عامر، الذي أَنِف من تصرُّف المصحفي، ووجد فيها إعلانًا بالضعف والصغار، وكأن البلاد قد خلت من الرجال، فلا يجدون رجلاً يقود الجيوش القوية الموجودة بالفعل، فيلجئون إلى هذه الخطة الدفاعية الذليلة التي تضرُّ، وقد لا تنفع، فعرض محمد بن أبي عامر على الحاجب جعفر المصحفي أن يقوم بتجهيز الجيش للجهاد في سبيل الله، ولكن لم يجد المصحفي رجلاً يقود الجيش، فلقد جبنوا، فضلاً عن استحالة أن يقوم هو بنفسه بقيادة الجيش؛ فليست له خبرة بالجهاد من قبل، فبادر لهذه القيادة ابن أبي عامر، وقام باختيار مَنْ يخرج معه من الرجال، واحتاج في تجهيزه للجيش لمائة ألف دينار، فاستكثر ذلك بعض الحاضرين، فقال له ابن أبي عامر: «خُذْ ضِعْفَها، وامض! وليحسنْ غَنَاؤُك». فبُهت المعترض وسكت.

بروز نجم محمد بن أبي عامر

استعدَّ ابن أبي عامر لهذه الغزوة أفضل استعداد، وقاد الجند، وأخذ معه المال، وسار في رجب سنة (366هـ) إلى الشمال، وهرب من أمامه جيش النصاري، ثم استطاع الاستيلاء على حصن الحامة وربضه، وعاد إلى قُرْطُبَة بعد اثنين وخمسين يومًا من خروجه إلى الغزو محملاً بالسبي والغنائم، ففرح الناس بذلك فرحًا عظيمًا، وزاد حبُّهم وتقديرهم له؛ إذ استطاع بشجاعته وإقدامه رفع الذلِّ والعار عنهم، وكذلك أحبه الجنود الذين كانوا معه؛ لِمَا رأوا من كثرة جوده، وكرم عشرته، وشجاعته في الحرب، فأحبوه والتفُّوا حوله، وزاد هو إحسانًا إليهم.
وهكذا انتهت الغزوة الأولى لصالح المسلمين عامة، ولصالح ابن أبي عامر خاصة، ولم تفتر همة ابن أبي عامر بعد هذه الغزوة؛ بل سارع بهمة عالية إلى استغلال آثارها على كافَّة المستويات، وكانت هجمات النصارى التي تتابعت على الأندلس عقب موت الحكم، وسكوت غالب عن مواجهتها قد أضعفت مركز غالب بن عبد الرحمن وقَلَّلَتْ من شأنه.
محمد بن أبي عامر وغالب الناصري

عرف ابن أبي عامر ما في نفس غالب من العداوة للمصحفي، وبأنه يرى نفسه فوقه، ويُغضبه أن يكون المصحفي في الحجابة وفي مراتب الدولة، وهو الذي بلا تاريخ ولا سابقة، فسعى ابن أبي عامر للدفاع عن غالب عند الخليفة الصغير وأُمِّه، فرُفع بذلك قدره، وأُعطيَ لقب ذي الوزارتين، وأصبح هو وابن أبي عامر المسئولَيْنِ عن الإعداد للصوائف؛ فهو المسئول عن جيش الثغر، وابن أبي عامر المسئول عن جيش الحضرة (أي الجيش المكلف بالدفاع عن قُرْطُبَة)، وفي عيد الفطر من العام نفسه (366هـ) اتجه ابن أبي عامر بالجيش إلى الشمال، واجتمع ابن أبي عامر بغالب بن عبد الرحمن في مدينة مجريط (مدريد الآن)، واتجها بالجيش إلى قشتالة، وفتحا حصن مُولَة، وغنموا وسبوا كثيرًا، وكان غالب ورجاله قد أبلوا أحسن البلاء، حتى كانوا سببًا في هذا الفتح.

وكان غالب قد أحب ابن أبي عامر لما رآه من مواهبه، أو لما رأى من سعيه للدفاع عنه ورَفْع قدره عند الخليفة وأمه، ودوره في أن يُلَقَّب بذي الوزارتين، أو لما كان من العداوة بينه وبين للمصحفي؛ فمن ثَمَّ رأى أن ابن أبي عامر أحق بالحجابة من المصحفي.

أيًّا ما كان الأمر، لسبب مما سبق أو لكل هذه الأسباب معًا، فلقد توطَّدت العلاقة بين غالب الناصري ومحمد بن أبي عامر، إلى الحدِّ الذي تنازل فيه غالب عمَّا أبلاه وجنوده في الفتح، فنُسب ذلك كله إلى ابن أبي عامر، فأرسل الرسائل إلى قُرْطُبَة تُشيد بما كان منه ومن بطولته وجهاده، وعظم الفتح الذي تمَّ على يديه، ثم اتفقا على عزل المصحفي، ذلك الحاجب الضعيف المتردِّد الرأي، وقال غالب لمحمد بن أبي عامر: «سيظهر لك بهذا الفتح اسم عظيم وذِكْر جليل، يشغلهم السرور به عن الخوض فيما تُحدثه من قصة، فإيَّاك أن تخرج عن الدار حتى تعزل ابن جعفر عن المدينة وتتقلدها دونه!»؛ لأن ابن جعفر المصحفي كان متوليًا لقُرْطُبَة العاصمة، وعَزْل هذا الوالي أول طريق عزل المصحفي عن الحجابة.

عاد ابن أبي عامر إلى قُرْطُبَة ومعه الغنائم والسبي، فاستمال بهذا الفتح الكبيرِ العامةَ والخاصةَ، وعَرفوا فيه حُسن النقيبة، وبُعد الهمة، فما كاد يصل ابن أبي عامر إلى قُرْطُبَة حتى أمر الخليفة في اليوم نفسه بعزل محمد بن جعفر المصحفي عن مدينة قُرْطُبَة، وتولية ابن أبي عامر المدينة، فأظهر ابن أبي عامر في حُكم المدينة كفاءة منقطعة النظير؛ حتى إن ابن عذاري المراكشي يصف ما قام به بالنسبة إلى فعل ابن المصحفي فيقول: «فضبط محمد المدينة ضبطًا أنسى أهل الحضرة (أي قُرْطُبَة) مَنْ سلف من أفراد الكُفَاة[3] وأُولي السياسة، وقد كانوا قبله في بلاء عظيم، يتحارسون الليل كله، ويُكابدون من روعات طُرَّاقه ما لا يُكابد أهل الثغور من العدوِّ. فكشف الله ذلك عنهم بمحمد بن أبي عامر وكفايته، وتنزُّهه عما كان يُنسب لابن جعفر؛ فسدَّ باب الشفاعات، وقمع أهل الفسق والذعارات، حتى ارتفع البأس، وأَمِنَ الناس، وأمنت عادية المتجرِّمين من حاشية السلطان؛ حتى لقد عثر على ابن عم له يعرف بعسقلاجة؛ فاستحضره في مجلس الشرطة وجلده جلدًا مبرحًا كان فيه حمامه[4]؛ فانقمع الشرُّ في أيامه جملة»[5].

ولما رأى الحاجب جعفر المصحفي ما آل إليه أمر ابن أبي عامر من القوة، وما بدا من تضعضع قوته وانحسار نفوذه، بادر إلى استمالة غالب، فخطب ابنة غالب لابنه، وما أن علم ابن أبي عامر بالأمر، حتى أرسل إلى غالب يُناشده العهد، ويخطب ابنة غالب لنفسه، وسانده في ذلك أهل دار الخلافة، فخرج طلب خطبة أسماء إلى ابن أبي عامر من قصر الخلافة في الزهراء، وبهذا كان الميزان كله في صالح ابن أبي عامر، فوافق غالب على تزويج ابنته أسماء له، وتم عقد القران بالفعل في المحرم سنة (367هـ)، وعندها أيقن المصحفي بالنكبة، وكفَّ عن اعتراض ابن أبي عامر في شيء، وانفضَّ الناس عن المصحفي، وأقبلوا على ابن أبي عامر إلى أن صار المصحفي يغدو إلى قصر قُرْطُبَة ويروح وهو وحده وليس بيده من الحجابة سوى اسمها.

نهاية جعفر المصحفي

وبعد أن تمَّ عقد قران ابن أبي عامر على أسماء ابنة غالب، خرج ابن أبي عامر في غزوته الثالثة، فخرج إلى طليطلة في غرَّة صفر 367هـ، واجتمع مع صهره غالب، ونهضا معًا إلى الشمال النصراني، فافتتحا حصن المال، وحصن زنبق، ودخلا مدينة شلمنقة، واستولوا على أرباضها، ثم عاد ابن أبي عامر بالغنائم والسبي، وبعدد كبير من رءوس النصارى، بعد أربعة وثلاثين يومًا من خروجه، فزادت حفاوة الخليفة به، وقلده خُطَّة الوزارتين للتسوية بينه وبين صهره، ورفع راتبه إلى ثمانين دينارًا في الشهر، وهو راتب الحجابة في ذلك الوقت، ثم زُفت أسماء بنت غالب إلى محمد بن أبي عامر في ليلة النيروز من قصر الخليفة في عرس لا مثيل له في الأندلس، ثم قلَّده الخليفة خُطَّة الحجابة إلى جانب جعفر المصحفي، ثم تغيَّر الخليفةُ على جعفر وسخط عليه، وأمر بعزله هو وأولاده وأقاربه عن أعمالهم في الدولة، والقبض عليهم، فسارع محمد بن أبي عامر إلى محاسبتهم حتى استصفى كل أموالهم، ومزَّقهم كل ممزق، وأيقن جعفر المصحفي بأنه هالك لا محالة، فحاول استرضاء ابن أبي عامر إلاَّ أن ذلك لم يُجْدِ شيئًا، حتى توفي سنة (372هـ) في سجنه، وقيل: قُتل. وقيل: دست إليه شربة فيها سُمّ[6].

ويُعلِّق ابن حيان على ما آل إليه أمر جعفر المصحفي فيقول: «وكانت لله عند جعفر في إيثاره هشامًا بخلافته، واتباع شهوة نفسه وحظِّ دنياه، وتسرُّعه إلى قتل المغيرة لأول وهلة، دون قصاص جريرة استدركته دون إملاء، فسُلط عليه مَنْ كان قدر أن يتسلط على الناس باسمه»[7].
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
همسة قلم
اديبة


انثى
تاريخ التسجيل : 17/11/2013
عدد المشاركات : 13947
نقاط التقييم : 14510
بلد الاقامة : لبنان
علم بلدك : Lebanon لبنان

زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي )   زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Emptyالأحد ديسمبر 08, 2013 8:02 pm

الدولة العامرية (366-399هـ= 976-1009م)

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

استقرَّ الأمر لمحمد بن أبي عامر؛ فلقد أضحى الحاكم الفعلي لبلاد الأندلس؛ فهو الحاجب القوي، الذي يسوس البلاد والعباد، ويغزو صيفًا وشتاءً فينتصر في كل معاركه مع النصارى، بينما الخليفة الذي كان صغيرًا يكبر على مهل، ولا يدري من حال مملكته شيئًا.


وقبض الحاجب محمد بن أبي عامر على أَزِمَّة السلطان في الدولة، وصار إليه الأمر والنهي والتولية والعزل، وإخراج الجيوش للجهاد، وتوقيع المصالحات والمعاهدات، حتى عُرِفَ ذلك العهد بعهد الدولة العامرية.

والدولة العامرية هي ذروة تاريخ الأندلس، وأقوى فتراتها على الإطلاق، ففيه بلغت الدولة الإسلامية الغاية في القوَّة، فيما بلغت الممالك النصرانية أمامها الغاية من الضعف، وقد بدأت فترة هذه الدولة فعليًّا منذ سنة (366هـ= 976م)، منذ أن تولى محمد بن أبي عامر أمر الوصاية على هشام بن الحكم، وظَلَّت حتى سنة (399هـ= 1009م)؛ أي: أنها استمرَّت ثلاثًا وثلاثين سنة متصلة، وتُعَدُّ الدولة العامرية مندرجة في فترة الخلافة الأموية؛ لأن الخليفة ما زال قائمًا، وإن كان مجرَّد صورة.

[b]ابن أبي عامر وتوطيد حكمه


من الأهمية بمكان -ونحن نناقش فترة محمد بن أبي عامر- أن نتذكر أنه بلا عصبة، أي ليست وراءه عائلة يتقوى بها، وتتعصب له على نحو ما كان مهيَّأ للعائلات الكبيرة؛ كبني أمية وبني العباس في المشرق، وغيرهم من العائلات الأقل، ولنتذكر أن عامل «العصبية» هذا هو الذي كان يحكم كل العالم إلى ما قبل أن تنشأ الجمهوريات الحديثة، فكان لا بُدَّ للملك أو الحاكم أن تكون له عصبة ترفعه وتحميه ويتكئ عليها.

وحين دخل عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس استفاد من تناحر العصبيات العربية الكائنة فيها، فحاول التحالف مع القيسية، ثم تحالف مع اليمنية وبهم انتصر، ولقد كان الداخل بعيد النظر حين علم أنه إن أراد إقامة دولة للإسلام فلا بُدَّ له من أن يقضي على العصبيات، وأن يتخذ لنفسه رجالاً لا عصبية لهم، فأكثر –رحمه الله- من اتخاذ الموالي، الذين صار لهم الشأن الأكبر في عهد الإمارة الأموية، بينما تراجعت رجالات العرب، وابتعدت عنهم المناصب، وصاروا في الدولة في مكانة تشريفية؛ يحضرون المجالس ويُقَدَّمون في المناسبات، وما إلى ذلك.

وكذلك -أيضًا- فعل عبد الرحمن الناصر؛ فلقد أكثر من الاعتماد على البربر الذين عبروا إلى الأندلس من عدوة المغرب، ونستطيع أن نقول بأن نجاح الدولة الأندلسية كان من أهم أسبابه اختفاء العرب ذوي العصبيات من مناصب الحكم.

وكذلك فعل ابن أبي عامر؛ فلقد كان البربر عُدَّته ورجاله، ولقد استكثر منهم، وضمهم إليه واستقوى بهم، وكان ابن أبي عامر قد تولى قضاء عدوة المغرب في أيام الحكم المستنصر، وساهم بذكائه وحسن سياسته في جعل أهم قبائل البربر المغربية -وهم بني برزال، وزعيمهم جعفر بن حمدون- يتخلَّوْن عن تحالفهم مع العبيديين (الفاطميين)، وينحازون بالولاء إلى قُرْطُبَة عاصمة الأمويين، وكان من نتائج هذا أن فقد العبيديين (الدولة الفاطمية) المغرب الذي خلص من بعد للأمويين[1].

فالآن نحن أمام رجل ذكي موهوب، حسن السياسة، يتولَّى حكم الأندلس فعليًّا باسم الخليفة الغلام هشام المؤيد بالله، وصحيح أن الأندلس قد خلت من الرجال الأقوياء، الذين يبلغون منافسته في الحكم –اللهم إلا فارس الأندلس العظيم غالبًا الناصري، وهو صهره الآن وعلاقتهما طيبة وبينهما تحالف- إلاَّ أن هذه السياسة تجعله في خطر من بني أمية، الذين يرون الملك باسمهم، ولكن فعليًّا ليس بأيديهم، وكذلك المصحفيين الذين نُكبوا وزالت سطوتهم بزوال الحاجب جعفر المصحفي.

وبعد قليل سيظهر في الأفق خصم شديد الخطر عظيم الذكاء، إنها صبح، أُمُّ الخليفة هشام، والتي سترى أن الخلافة تخرج من بين يدي ولدها، وأن ابن أبي عامر يُسيطر بنفسه على الأمور.

مدينة الزاهرة

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

كما أنشأ عبد الرحمن الناصر -رحمه الله- مدينة الزهراء في الشمال الغربي من مدينة قُرْطُبَة؛ لتكون مركزًا لخلافته، قام محمد بن أبي عامر بإنشاء مدينة ملوكية جديدة في شرق قُرْطُبَة سمَّاها مدينة الزاهرة أو مدينة العامرية، بدأ في بنائها عام (368هـ)، وانتقل إليها بعد اكتمال بنائها في (370هـ)، نقل إليها الوزارات ودواوين الحُكم، وأنشأ له قصرًا كبيرًا هناك، حتى أصبحت مدينة الزاهرة أو مدينة العامرية هي المدينة الأساسية في الأندلس وبها قصر الحُكم[2].

وكان إنشاء هذه المدينة يُحَقِّق هدفين مهمين؛ الأول: هو الابتعاد عن مناطق الخطر والمؤامرات حيث مواطن الأمويين، وحيث قصر الخليفة وأمه، ومن غير المأمون أن تُدَبَّر عليه مؤامرة بيد الأمويين أو مواليهم أو بعض فتيان القصر. والثاني: هو ترسيخ وتثبيت شأنه في الدولة، وخطوة على طريق الانفراد بشئون الدولة وإدارتها.

قدوم جعفر بن حمدون

استدعى ابن أبي عامر (في عام 370 هـ) فارس المغرب وزعيم بني برزال جعفر بن حمدون، وقد ذكرنا أنه قد كانت بينهما صلة قديمة منذ كان ابن أبي عامر قاضيًا في المغرب، فنزل جعفر إلى الأندلس وقربه ابن أبي عامر ورفع من قدره، ولا شَكَّ أن في هذه الخطوة تقوية لمركز وقوة ابن أبي عامر، فجعفر فارس كبير وشخصية قوية، ثم هو زعيم البربر الذين سيزداد ولاؤهم لابن أبي عامر بنزول زعيم منهم في كنفه، وأن يصير من رجال الدولة وفرسانها.

إلاَّ أن هذا النزول وهذه النتائج لم تكن بالتي تغيب عن ذهن فارس الأندلس غالب الناصري، والذي رأى في وجود جعفر منافسة له، بل وربما تحديًا، يُثبت أن الدولة تستطيع الاستغناء عنه بغيره، وأنه لم يَعُدِ الوحيد المختص بجهاد العدوِّ، ولم يَعُد الدِّعامة التي يُستند إليها في مهمات الحرب الجليلة.

ولا شَكَّ أن ابن أبي عامر استفاد من درس الماضي القريب؛ حين كان المصحفي في الحجابة، وثار العدو بثغور الأندلس فلم ينهض إليهم غالب لإحراج المصحفي ولإثبات مكانته من الدولة، فأحب أن يتجنَّب تكرار هذه الأزمة، وتورد بعض الروايات أن غالبًا كان بالفعل «يستطيل على ابن أبي عامر بأسباب الفروسية، ويُباينه بمعاني الشجاعة، ويعلوه من هذه الجهة التي لم يتقدَّم لابن أبي عامر بها معرفة»[3].

ومن ثَمَّ ساء الجوُّ بين غالب وابن أبي عامر.. ووقع الحدث الخطير، وهو تمرد غالب الناصري.

تمرد غالب الناصري

خرج المنصور إلى غزوة من غزواته في الصوائف إلى قشتالة، فدعاه غالب الناصري إلى وليمة أقامها بمدينة «أنتيسة» وعزم عليه في حضورها، ولما ذهب ابن أبي عامر جرى بينهما نقاش واحتدَّ حتى «سبَّه غالب وقال له: يا كلب؛ أنت الذي أفسدت الدولة، وخربت القلاع، وتحكمت في الدولة. وسل سيفه فضربه»[4]. ولولا أن أحد الحاضرين أعاق يده فانحرفت ضربة السيف لكانت الضربة قد قتلت ابن أبي عامر، ولكن أصابته بشجٍّ في رأسه.

ولحسن حظِّه استطاع ابن أبي عامر أن يُلقي بنفسه من فوق القلعة، وأن ينجو من هذا المأزق الخطير بما فيه من إصابات، ثم عاد إلى قُرْطُبَة وقد استُعلنت بينهما العداوة.

جهز ابن أبي عامر جيشًا من قُرْطُبَة ثم سار به إلى ملاقاة غالب الناصري، وهنا وقع الفارس العظيم في خطأ قاتل، كان أسوأ خاتمة لحياة اتصلت ثمانين عامًا حافلة بالجهاد، لقد اتصل غالب الناصري براميرو الثالث ملك ليون، وطلب منه النجدة ضد جيش قُرْطُبَة، فأمده راميرو بجزء من جنده.

ويستطيع المرء أن يتخيَّل السعادة التي حازها راميرو حينما يجد الفارس الكبير الذي أذله وبلاده كثيرًا في موقف المستنجد به، ولعلَّه أمَّل في أن يكون هذا بداية تحالف طويل بينهما.

نهاية غالب الناصري

التقى الجيشان؛ جيش قُرْطُبَة يقوده ابن أبي عامر في القلب وعلى الميمنة فارس المغرب –الذي صار فارس المغرب والأندلس- جعفر بن حمدون، وعلى الميسرة الوزير أحمد بن حزم (والد الإمام الكبير ابن حزم) وغيره من الرؤساء، أمام جيش غالب الناصري ومعه جيش ليون.

ومع أن غالبًا الناصري كان قد بلغ الثمانين إلاَّ أنه هجم على الميمنة فغلبها ومزَّقها، ثم عاد وهجم على الميسرة فغلبها ومزَّقها، وما هو إلاَّ أن واجه القلب، وفيه ابن أبي عامر. وإنه من المثير حقًّا أن نشاهد هذا اللقاء بين الرجلين اللذين لم يُهزما حتى الآن، واللذين ستكون هزيمة أحدهما هي الأولى -وربما الأخيرة- في حياته، فيختم بها سجل تاريخه.

رفع غالب صوته قائلاً: «اللهم إن كنتُ أصلح للمسلمين من ابن أبي عامر فانصرني، وإن كان هو الأصلح لهم فانصره». ثم حدث أعجب ما يمكن أن يُتصور في هذا الموقف، ولولا أنه وصل إلينا من رواية صحيحة ثابتة لما صدقه أحد من المؤرخين[5]، لقد مشى غالب بفرسه إلى خارج الجيشين، فَظَنَّ الناس أنه يُريد الخلاء، ثم طال غيابه، فذهب بعض جنوده للبحث عنه فوجدوه ميتًا بلا أثر ولا ضربة ولا رمية، فعادوا بالبشرى إلى ابن أبي عامر.

وأراد الله أن يموت الرجلان ولم ينهزم أحدهما، ولعلَّه استجاب إلى دعاء غالب، فأبقى للمسلمين مَنْ هو أصلح لهم[6]، إلاَّ أن هذا الحادث المفاجئ أسفر عن تطور لم يتوقَّعْه أحد؛ إذ انحاز جيش غالب المسلم إلى جيش قُرْطُبَة فوقع جيش ليون في المأزق الكبير!

بقي أن نذكر -قبل أن نتجاوز قصة تمرُّد غالب الناصري- أن بعض المؤرخين يتوقَّع أن من أسباب تمرُّد غالب الناصري ما قد يكون تحريضًا من صبح أم الخليفة الفتى، التي بدأت ترى أن الملك يذهب من بين يدي ولدها.

غزو الممالك النصرانية

استدار جيش ابن أبي عامر -الذي انحاز إليه جيش غالب- ليواجها جيش ليون، لتبدأ غزوات الممالك النصرانية، التي استمرَّت بعدئذٍ سبعة وعشرين عامًا، وانتهت جميعها بالظفر للمسلمين.

قصد ابن أبي عامر إلى مدينة سمورة –التابعة لمملكة ليون- ليُعاقب ملكها راميرو الثالث، وحاصرها واستولى على ما حولها، وفرت أمامه الجيوش، حتى طلب راميرو المساعدة من غرسية صاحب قشتالة، وسانشو ملك نافار، وعقدوا تحالفًا ثلاثيًّا، وسارت الجيوش المتحالفة إلى لقاء جيش المسلمين فهُزموا شرَّ هزيمة، ثم زحف الجيش الإسلامي في خطوة بالغة الشجاعة إلى مدينة ليون عاصمة المملكة، ووصلوا فعلاً إلى أبوابها، إلاَّ أن نزول الشتاء والثلوج دفعا بالجيش إلى الرجوع دون إكمال فتح المدينة، فعاد الجيش إلى قُرْطُبَة، وكان ابن أبي عامر يحمل معه مفاجأة:

الحاجب المنصور

بعد عودة الجيش الإسلامي إلى قُرْطُبَة مكللا بهذا الظفر الكبير؛ القضاء على تمرُّد غالب الناصري، ثم هزيمة جيش ليون، ثم هزيمة جيوش النصارى المتحالفة، ثم الوصول إلى أبواب ليون، قام محمد بن أبي عامر (في سنة 371هـ=982م) باتخاذ لقب ملوكي، فلَقَّب نفسه بالحاجب المنصور، وقد كانت الألقاب من قبلُ عادة الخلفاء، ثم أصبح يُدعى له على المنابر مع الخليفة هشام بن الحكم، ثم نُقش اسمه على النقود وعلى الكُتب والرسائل[7].

ومن ذلك التاريخ عُرِف محمد بن أبي عامر بهذا اللقب: الحاجب المنصور (Al manzor).

كان عهد المنصور بن أبي عامر في الذروة من القوة والكفاءة، فعلى المستوى الخارجي جهاد دائم، يخرج المنصور مرتين في العام فينتصر، وعلى المستوى الداخلي فاض الأمن والرخاء، وبلغت الحضارة والمدنية آفاقها السامقة.

وكانت الدولة العامرية تحت السلطان الكامل للحاجب المنصور، ويختفي تمامًا ذكر الخليفة هشام، الذي ظلَّ حبيس قصره الفاخر في الزاهرة، لا يتولَّى من أمر الملك شيئًا؛ لذا تختلف الروايات التاريخية إلى حدِّ التضارب في حاله؛ فمن رواياتٍ تذكر أنه كان منصرفًا للعبادة مقبلاً على العلم كثير الإنفاق على المحتاجين[8]، إلى رواياتٍ أخرى تقول بأنه كان منصرفًا إلى اللهو والعبث ومجالسة الجواري والاهتمام بالتفاهات[9]، إلى روايات أخرى تصفه بالذكاء والحكمة والمروءة[10]، إلاَّ أنه كان مغلوبًا على أمره، ليس بيده شيء يمكنه به استرجاع ملكه في ظلِّ السيطرة الكاملة والشاملة للمنصور على مقادير الأمور.

بعد التمهيدات السابقة وفي الطريق نحو عهد جديد قام المنصور بن أبي عامر في سنة (381هـ=991م) بأمر لم يُعهد من قَبْلُ في تاريخ الأندلس؛ بل في تاريخ المسلمين، حيث عهد بالحجابة من بعده لابنه عبد الملك بن المنصور، وكان المشهور والمتعارف عليه أن يكون العهد بالخلافة، وأن يكون من الخليفة نفسه، ثم بعد خمس سنوات أي في سنة (386هـ= 996م) اتخذ لنفسه لقب الملك الكريم[11].[/b]
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
همسة قلم
اديبة


انثى
تاريخ التسجيل : 17/11/2013
عدد المشاركات : 13947
نقاط التقييم : 14510
بلد الاقامة : لبنان
علم بلدك : Lebanon لبنان

زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي )   زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Emptyالأحد ديسمبر 08, 2013 8:03 pm

تولَّى محمد بن أبي عامر الحُكم منذ سنة (366هـ= 976م) وحتى وفاته –رحمه الله- في سنة (392هـ= 1002م)، وقد قضى هذه المدَّة في جهاد دائم لا ينقطع مع ممالك النصارى في الشمال، مع حسن إدارة وسياسة على المستوى الداخلي، حتى صارت الأندلس في عهده في ذروة مجدها[1].

غزوات المنصور ابن أبي عامر

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

غزا محمد بن أبي عامر في حياته أربعًا وخمسين غزوة، لم يُهزم أبدًا في واحدة منها، بل كان الأغرب من ذلك هو أن يصل في فتوحاته إلى أماكن في مملكة ليون وفي بلاد النصارى لم يصل إليها أحدٌ من قبلُ، بل لم يصل إليها الفاتحون الأوائل؛ مثل: موسى بن نصير وطارق بن زياد، فقد وصل الحاجب المنصور إلى منطقة الصخرة؛ تلك المنطقة التي لم تُفتح من قِبَل المسلمين من قبلُ، واستطاع –رحمه الله- أن يغزو النصارى في عقر دارهم، وها هو ذا قد وصل إلى خليج بسكاي والمحيط الأطلسي في الشمال، وفي كل هذه الغزوات لم تنكسر له فيها راية، ولا فلَّ له جيش، ولا أُصيب له بعث، ولا هلكت سرية[2].

وكان من المتعارف عليه قبل ذلك أن الجهاد في الصوائف فقط، إلاَّ أن الحاجب المنصور كانت له في كل عام مرتان يخرج فيهما للجهاد في سبيل الله، عُرفت هاتان المرتان باسم الصوائف والشواتي.

غزوة شانت يعقوب

كانت أعظم هذه الغزوات قاطبة غزوة «شانت ياقب»، وشانت ياقب هو النطق العربي في ذلك الوقت لـ «سانت يعقوب» أي القديس يعقوب، وكانت هذه المدينة في أقصى الشمال الغربي من شبه الجزيرة الأيبيرية، وهي منطقة على بعدها الشديد عن أهل الأندلس في ذلك الوقت كانت شديدة الوعورة؛ ولذلك لم يصل إليها فاتح مسلم قبل المنصور بن أبي عامر، هذا بالإضافة إلى أن هذه المدينة على وجه التحديد كانت مدينة مقدسة عند النصارى، فكانوا يأتونها من مختلف بقاع الأرض ليزوروا قبر هذا القديس؛ حتى إن ابن عذاري المراكشي قال: إنها «أعظم مشاهد النصارى الكائنة ببلاد الأندلس وما يتصل بها من الأرض الكبيرة، وكانت كنيستها عندهم بمنزلة الكعبة عندنا؛ فبها يحلفون، وإليها يحجون من أقصى بلاد رومة وما وراءها»[3].

وكان ملوك نصارى الشمال كلما هاجم ابن أبي عامر عواصمهم فروا إلى هذه المنطقة القاصية الوعرة؛ يحتمون فيها من بأس المسلمين؛ ولهذا قرَّر ابن أبي عامر أن يذهب إلى هذه المدينة، وأن يحطم أسوارها وحصونها؛ ولِيُعْلِمَ هؤلاء أن ليس في شبه الجزيرة كلها مكان يمكنهم أن يحتموا فيه من بطش ابن أبي عامر.

وقصة هذه المدينة هي ما يُقال عن يعقوب صاحب هذا القبر، من أنه كان أحد حواريِّي سيدنا عيسى ابن مريم u الاثني عشر، وأنه كان أقربهم إليه u؛ حتى سموه أخاه u للزومه إيَّاه، فكانوا يُسَمُّونه أخا الرب –تعالى الله عمَّا يصفون علوًّا كبيرًا - ومنهم مَنْ يزعم أنه ابن يوسف النجار، وتقول الأسطورة أن صاحب هذا القبر كان أسقف بيت المقدس، وأنه جاب الأرض داعيًا إلى عقيدته حتى وصل إلى تلك الأرض البعيدة، ثم إنه عاد إلى أرض الشام، وقُتل بها، فلما مات نقل أصحابه رفاته إلى آخر مكان بلغه في رحلته الدعوية.

وفي صائفة سنة (378هـ) -وهي غزوته الثامنة والأربعون- قاد ابن أبي عامر قواته متجهًا بها نحو الشمال قاصدًا شانت ياقب، وفي الوقت نفسه بدأ الأسطول الأندلسي الذي أعده المنصور لهذه الغزوة تحرُّكَه من الموضع المعروف بقصر أبي دانس غربي الأندلس، وفي الطريق انضم إلى المنصور ابن أبي عامر عدد كبير من أمراء نصارى الإسبان؛ نزولاً على ما بينه وبينهم من معاهدات تُوجب عليهم أن يشتركوا معه في المعارك، ثم اتجه إلى شانت ياقب مخترقًا الطرق الجبلية الوعرة، حتى وصل إلى هذه المدينة، بعد فتح كل الحصون والبلاد التي في طريقه، وغنم منها وسبى، ثم وصل ابن أبي عامر إلى مدينة شانت ياقب ولم يجد فيها إلاَّ راهبًا بجوار قبر القديس يعقوب، فسأله عن سبب بقائه، فقال: أؤانس يعقوب. فأمر بتركه وعدم المساس به، وأمر بتخريب حصون هذه المدينة وأسوارها وقلاعها، وأمر بعدم المساس بقبر القديس يعقوب، ثم تعمق حتى وصل إلى ساحل المحيط دون أن يقف أمامه شيء، وكرَّ راجعًا، بعدما أنعم على مَنْ كان معه من أمراء النصارى بالمال والكساء كلٍّ على حسب قدره، ثم كتب إلى المسلمين يُبَشِّرهم بالفتح[4].

صور من جهاد المنصور ابن أبي عامر

يسير جيشا جرارا لإنقاذ نسوة ثلاث

جاء عن الحاجب المنصور في سيرة حروبه أنه سَيَّر جيشًا كاملاً لإنقاذ ثلاث من نساء المسلمين كنَّ أسيرات لدى مملكة نافار؛ ذلك أنه كان بينه وبين مملكة نافار عهد، وكانوا يدفعون له الجزية، وكان من شروط هذا العهد ألاَّ يأسروا أحدًا من المسلمين أو يستبقوهم في بلادهم، فحدث ذات مرَّة أن ذهب رسول من رسل الحاجب المنصور إلى مملكة نافار، وهناك وبعد أن أدَّى الرسالة إلى ملك نافار أقاموا له جولة، وفي أثناء هذه الجولة وجد ثلاث نسوة من نساء المسلمين في إحدى كنائسهم فتعجَّب لوجودهن، وحين سألهن عن ذلك قلن له: إنهن أسيرات في ذلك المكان.

وهنا غضب رسول المنصور غضبًا شديدًا، وعاد إلى الحاجب المنصور وأبلغه الأمر، فما كان من المنصور إلاَّ أن سيَّر جيشًا جرارًا لإنقاذ النسوة، وحين وصل الجيش إلى بلاد نافار دُهش ملك نافار، وقال: نحن لا نعلم لماذا جئتم، وقد كانت بيننا وبينكم معاهدة على ألاَّ نتقاتل، ونحن ندفع لكم الجزية. وبعزَّة نفس في غَيْرِ كبرٍ ردُّوا عليه: إنكم خالفتم عهدكم، واحتجزتم عندكم أسيرات مسلمات. فقالوا: لا نعلم بهن. فذهب الرسول إلى الكنيسة وأخرج النسوة الثلاث، فقال ملك نافار: إن هؤلاء النسوة لا نعرف بهن؛ فقد أسرهن جندي من الجنود وقد تمَّ عقاب هذا الجندي. ثم أرسل برسالة إلى الحاجب المنصور يعتذر فيها اعتذارًا كبيرًا، ويخبره بأنه قد هدم هذه الكنيسة، فعاد الحاجب المنصور إلى بلده ومعه النسوة الثلاث[5].

يقطع النصارى عليه الطريق، فيملي شروطه عليهم

ومما ذُكر عن الحاجب المنصور -أيضًا- أنه –رحمه الله- وهو في جهاده لفتح بلاد النصارى كان قد عبر مضيقًا في الشمال بين جبلين، ونكاية فيه فقد نصب له النصارى كمينًا كبيرًا، فتركوه حتى عبر بكل جيشه، وحين همَّ بالرجوع وجد طريق العودة قد قُطع عليه، ووجد المضيق وقد أُغلق تمامًا بالجنود.فما كان من أمر الحاجب المنصور إلاَّ أن عاد مرَّة أخرى إلى الشمال واحتلَّ مدينة من مدن النصارى هناك، ثم أخرج أهلها منها وعسكر هو فيها، ووزَّع ديارها على جنده، وتحصَّن وعاش فيها فترة، ثم اتخذها مركزًا له يقود منه سير العمليات العسكرية، فأخذ يُرسل منها السرايا إلى أطراف ممالك النصارى، ويأخذ الغنائم ويقتل المقاتلين من الرجال، ثم يأتي بهؤلاء المقاتلين ويرمي بجثثهم على المضيق الذي احتلَّه النصارى ومنعوه من العودة منه.
وهنا ضجَّ النصارى وذهبوا مغاضبين إلى قوَّادهم يعرضون عليهم أن يفتحوا له الباب؛ حتى يعود إلى بلده مرَّة أخرى، أو يجدوا حلاًّ لهم في هذا الرجل، فاستجابوا لهم وعرضوا على الحاجب المنصور أن يُخَلُّوا بينه وبين طريق العودة ويعود من حيث أتى، فما كان من المنصور إلاَّ أن رفض هذا العرض، وردَّ عليهم متهكِّمًا أنه كان يأتي إليهم كل عام مرتين صيفًا وشتاءً، وأنه يريد هذه المرَّة أن يمكث بقية العام حتى يأتي موعد المرَّة الثانية، فيقوم بالصوائف والشواتي من مركزه في هذه البلاد بدلاً من الذهاب إلى قُرْطُبَة ثم العودة منها ثانية.
لم يكن مفرٌّ أمام النصارى سوى أن يطلبوا منه الرجوع إلى بلده ومالوا إلى السلم، فراسلوه في ترك الغنائم والجواز إلى بلاده، فقال: أنا عازم على المقام. فتركوا له الغنائم، فلم يجبهم إلى الصلح، فبذلوا له مالاً ودوابَّ تحمل له ما غنمه من بلادهم، فأجابهم إلى الصلح، وفتحوا له الدرب[6].

يجمع ما علق على ثيابه من غبار ليُدفن معه في قبره

مقتديًا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : «... وَلاَ يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِى سَبِيلِ اللهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ»[7]. فكان من عادة الحاجب المنصور -رحمه الله- في جهاده وبعد كل معركة أن ينفض ثوبه، ويأخذ ما يخرج منه من غبار ويضعه في قارورة، ثم أمر في نهاية حياته أن تُدفن معه هذه القارورة؛ وذلك حتى تشهد له يوم القيامة بجهاده ضد النصارى[8].
ولقد كان من أهم مميزات جهاد الحاجب المنصور أنه كان يبدأ بالهجوم، ويحاول إجهاض المؤامرات في مهدها، ولا ينتظر للدفاع مثلما كان حال مَنْ سبقه[9].

حضارة الأندلس في عهد الحاجب المنصور

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

من الجوانب الوضَّاءة في حياة ابن أبي عامر أو الحاجب المنصور -أيضًا- اهتمامه الكبير بالجانب المادي والحضاري في البلاد؛ فقد أسَّس مدينة الزاهرة على أحسن ما يكون -كما ذكرنا- وزاد كثيرًا في مساحة مسجد قُرْطُبَة، حتى أضاف إليه ضعف مساحته الأصلية، وكان يشتري هذه المساحات ممن يقطنون حول المسجد، وذلك بالمبلغ الذي يرضونه[10].

وقد ذُكر في ذلك أنه كانت هناك سيدة وحيدة تسكن في بيت فيه نخلة بجوار المسجد، وقد أبت هذه السيدة أن تبيع بيتها هذا إلاَّ إذا أَتى لها الحاجب المنصور بمنزل فيه نخلة كالذي تملكه، فأمر الحاجب المنصور بشراء بيت لها فيه نخلة كما أرادت، حتى ولو أتى ذلك على بيت المال، ثم أضاف بيتها إلى حدود المسجد[11].
زاد الحاجب المنصور كثيرًا في المسجد بعد ذلك، حتى أصبح ولفترة طويلة من الزمان أكبر من أي مسجد أو كنيسة في العالم، وهو ما يزال إلى الآن موجودًا في إسبانيا، ولكنه -وللأسف- حُوِّل إلى كنيسة بعد سقوط الأندلس، ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله!
وكذلك كانت العلوم والتجارة والصناعة وغيرها من الأمور قد ازدهرت كثيرًا في حياة الحاجب المنصور، وقد عمَّ الرخاء وامتلأت خزانة الدولة بالمال، ولم يَعُدْ هناك فقراء تمامًا، كما كان الحال أيام الحكم بن عبد الرحمن الناصر أو أيام عبد الرحمن الناصر نفسه.
وحتى البلاد التي فتحها المنصور من بلاد النصارى اهتم بتعميرها وعمارتها؛ حتى صارت الجزيرة الأندلسية كلها متصلة العمران، عامرة زاهرة خضرة نضرة[12].

الاستقرار الداخلي في الأندلس

كان من اللافت للنظر -أيضًا- في حياة الحاجب المنصور أنه ورغم طول فترة حكمه -التي امتدَّت من سنة (366هـ= 976م) وحتى سنة (392هـ= 1002م)- لم تقم عليه أي ثورة، أو تمرُّد في عهده على طول البلاد واتساعها واختلاف أمزجتها، اللهم إلاَّ ما ذكرناه من قبل عن النزاع بينه وبين غالب الناصري.
فقد كان الحاجب المنصور رجلاً قويًّا، محكِمًا للأمن والأمان في البلاد، كما كان عادلاً مع الرعية؛ ومما جاء في ذلك ما ترويه بعض الروايات من أنه جاءه يومًا رجلٌ بسيط من عامَّة الشعب، يبغي مظلمة عنده، وقال له: إن لي مظلمة وإن القاضي لم يُنصفني فيها. وحين سمع منه مظلمته أتى بالقاضي مستوضحًا منه الأمر، وكيف أنه لم يُنصف الرجل في مظلمته، فقال له القاضي: إن مظلمته ليست عندي، وإنما هي عند الوسيط (بمكانة نائب رئيس الوزراء في زمننا)، فأحضر الحاجب المنصور الوسيطَ وقال له: اخلع ما عليك من الثياب (يقصد ثياب التميز والحُكم)، واخلع سيفك، ثم اجلس هكذا كالرجل البسيط أمام القاضي. ثم قال للقاضي: الآن انظر في أمرهما. فنظر القاضي في أمرهما، وقال: إن الحقَّ مع هذا الرجل البسيط، وإن العقاب الذي أقضيه هو كذا وكذا على الوسيط. فما كان من الحاجب المنصور إلاَّ أن قام بإنفاذ مظلمة الرجل، ثم قام إلى الوسيط فأقام عليه أضعاف الحدِّ الذي كان قد أوقعه عليه القاضي، فتعجَّب القاضي، وقال للمنصور: يا سيدي؛ إنني لم آمر بكل هذه العقوبة. فقال الحاجب المنصور: إنه ما فعل هذا إلا لقُرْبِه مِنَّا؛ ولذلك زدنا عليه الحدَّ؛ ليعلم أن قربه منا لن يمكِّنه من ظلم الرعيَّة[13].
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
همسة قلم
اديبة


انثى
تاريخ التسجيل : 17/11/2013
عدد المشاركات : 13947
نقاط التقييم : 14510
بلد الاقامة : لبنان
علم بلدك : Lebanon لبنان

زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي )   زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Emptyالأحد ديسمبر 08, 2013 8:03 pm

مملكة قشتالة

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

شُغل المسلمون بعد وفاة الحكم المستنصر لبعض الوقت بشئونهم الداخلية، فظنَّ النصارى -كالعادة- أن الوقت قد حان لأن يضربوا بكل عهود السلم التي كانت بينهم وبين الحكم المستنصر عُرض الحائط، وأن يعودوا إلى الإغارة على أراضي المسلمين، فأغار القشتاليون على الأراضي الإسلامية، وتوغَّلوا فيها جنوبًا، وعاثوا فيها فسادًا، فهبَّ ابن أبي عامر لردِّهم ومعاقبتهم، فغزا أراضي قشتالة في أوائل سنة (366هـ = 977م)، ثم غزاها ثانية، واقتحم مدينة شلمنقة في العام التالي، وبدأت بذلك سلسلة الغزوات الشهيرة المتوالية على الممالك النصرانية في الشمال، والتي استغرقت طيلة حياة ابن أبي عامر.

مملكة ليون

أمَّا مملكة ليون، فقد أقدم الملك راميرو الثالث، على معاونة القائد غالب الناصري ببعض قواته في خروجه على المنصور، فعزم ابن أبي عامر على عقاب راميرو على هذا التحدِّي، وسار إليه في جيش لمحاربته، فتحالف راميرو الثالث مع أمير قشتالة غرسية فرناندز ومع ملك نافار سانشو غرسية، والتقى الجمعان؛ المنصور بن أبي عامر من جهة والجيوش النصرانية المتحدة من جهة أخرى، وهزمهم المسلمون في موقعة شنت منكش سنة (371هـ= 981م).
وبعد هزيمة راميرو الثالث في هذه المعركة؛ ادَّعى أشراف ليون أنه لم يعد صالحًا لتولِّي أمر المملكة، فقرَّروا خلعه، وتولية ابن عمه برمودو بدلاً منه، ولكن راميرو لم يُذعن لهذا القرار، فحشد أنصاره وخاض حربًا مع ابن عمه، فهُزِم وفرَّ إلى مدينة أسترقة، ثم حاول أن يلجأ بعد ذلك إلى المنصور بن أبي عامر، وأن يستعين به لاسترداد عرشه، ولكن القَدَرَ لم يُمهله؛ إذ توفي بعد ذلك بقليل، وخلا الجوُّ لبرمودو.

ولكن برمودو نفسه لم يستطع الاطمئنان على ملكه؛ وبخاصة أن عددًا من الأشراف عارضوا حكمه، فخشي أن يُفعل به مثلما فُعل بابن عمه، فلجأ إلى المنصور بن أبي عامر يستمدُّ منه العون والتأييد في مقابل أن يعترف بطاعته، وأن يُؤَدِّيَ إليه الجزية، فأجابه المنصور إلى طلبه، وأرسل إليه بقوَّة من الجند، نزلت مدينة ليون عاصمة المملكة؛ لتحمي برمودو، وبذلك أصبحت ليون تابعة للمسلمين.

ولكن هذا الوضع لم يَرُقْ لبرمودو؛ فبمجرَّد أن شعر باستقراره على العرش، وبازدياد نفوذه وقوته، قرَّر أن يغدر بالمسلمين ويتخلَّص من تبعيته لابن أبي عامر، فهاجم الحامية الإسلامية، واستخلص من يدها مدينة ليون، فهبَّ المنصور لحربه، وسار إلى مدينة ليون واقتحمها، ومزَّق قوى النصارى، ثم استمرَّ يغزو أراضي ليون تباعًا، ويُوقع الهزائم المتتالية ببرمودو، حتى اضطر برمودو إلى طلب الصلح، والعودة إلى طاعة ابن أبي عامر عام (995م).

ولم يُعَمَّر برمودو طويلاً بعد ذلك فمات عام (999م)، وخلفه ابنه ألفونسو الخامس، وكان طفلاً، فعُيِّن أحد أشراف ليون -وهو الكونت مننديث كونثالث- وصيًّا على الملك الصغير.

مملكة نافار

تولَّى سانشو غرسية الثاني عرش نافار بعد موت أبيه غرسية سانشيز، وكانت نافار قد اتسعت رقعتها عندئذٍ، فصارت تشمل عدَّة ولايات، غير ولاية نافار الأصلية؛ مثل: ولايات كانتبريا، وسوبرابي، وربا جورسيا، ونمت مواردها وقواها، حتى بدأ سانشو غرسية في مهاجمة الأراضي الإسلامية، فكان ردُّ المنصور بن أبي عامر على ذلك عنيفًا؛ فغزا مملكة نافار وتوغَّل فيها حتى دخل عاصمتها بنبلونة عام (987م).

وخلف سانشو في الحُكم ولده غرسية سانشيز الثالث، فلم يدم حكمه سوى خمسة أعوام، وقد غزا المنصور بن أبي عامر نافار في عهده مرَّة أخرى عام (999م)، وقد مات غرسية بعد هذه الغزوة بعام، وتولَّى بعده ابنه سانشو الثالث الملقب بالكبير[1].

لقد كان المشهد الصليبي في أيام المنصور وبأثر من جهاده في غاية الضعف والتمزُّق.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي )
استعرض الموضوع التالي استعرض الموضوع السابق الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 2 من اصل 3انتقل الى الصفحة : الصفحة السابقة  1, 2, 3  الصفحة التالية
 مواضيع مماثلة
-
» أمهات خالدات في التاريخ الإسلامي
» أكاذيب في التاريخ الإسلامي: وأد «الفاروق» لابنته و«الرشيد» سكيرًا وحكم «قراقوش» (1)
» ابن هانئ الأندلسي
» الأدب الأندلسي وفنونه
» ( قصة كتاب.. طوق الحمامة لابن حزم الأندلسي )

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات اشتياق أسسها الراحل مصطفى الشبوط في يوم الجمعة30نوفمبرعام2007 :: اقسام الثقافة والتاريخ والادب العالمي :: اشتياق التاريخ والتراث وسيرة حياة المشاهير-
أفضل 10 أعضاء في هذا المنتدى
المهندس محمد فرج - 123667
زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Vote_rcap1زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Voting_bar1زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Vote_lcap1 
الدكتور خليل البدوي - 107926
زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Vote_rcap1زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Voting_bar1زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Vote_lcap1 
احلام شحاتة - 61741
زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Vote_rcap1زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Voting_bar1زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Vote_lcap1 
ايمان الساكت - 56084
زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Vote_rcap1زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Voting_bar1زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Vote_lcap1 
باسند - 51612
زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Vote_rcap1زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Voting_bar1زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Vote_lcap1 
مصطفى الشبوط - 17651
زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Vote_rcap1زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Voting_bar1زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Vote_lcap1 
همسة قلم - 13947
زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Vote_rcap1زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Voting_bar1زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Vote_lcap1 
نوره الدوسري - 8809
زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Vote_rcap1زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Voting_bar1زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Vote_lcap1 
احاسيس - 7517
زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Vote_rcap1زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Voting_bar1زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Vote_lcap1 
كاميليا - 7369
زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Vote_rcap1زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Voting_bar1زهرةالتاريخ الإسلامي ( التاريخ الأندلسي ) - صفحة 2 Vote_lcap1